صفحة جزء
[ ص: 131 ] سورة التوبة أو " براءة "

( هي السورة التاسعة ، وآياتها 129 عند الكوفيين و130 عند الجمهور )

هي مدنية بالاتفاق . قيل إلا قوله تعالى : ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى ( 113 ) الآية . لما روي في الحديث المتفق عليه من نزولها في النهي عن استغفاره ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعمه أبي طالب كما سيأتي تفصيله في تفسيرها . ويجاب عنه بجواز أن يكون نزولها تأخر عن ذلك ، وبما يقوله العلماء في مثل هذا المقام من جواز نزول الآية مرتين : مرة منفردة ، ومرة في أثناء السورة .

واستثنى ابن الفرس قوله تعالى : لقد جاءكم رسول إلى آخر الآيتين ( 128 ، 129 ) في آخرها فزعم أنهما مكيتان ، ويرده ما رواه الحاكم وأبو الشيخ في تفسيره عن ابن عباس من أن هاتين الآيتين آخر ما نزل من القرآن ، وقول الكثيرين : إنها نزلت تامة . وما يعارض هذا مما ورد في أسباب نزول بعض الآيات ، يجاب عنه بأن أكثر ما روي في أسباب النزول كان يراد به أن الآية نزلت في حكم كذا . أعني أن الرواة كانوا يذكرونها كثيرا في مقام الاستدلال ، وهذا لا يدل على نزولها وحدها ، ولا على كون النزول كان عند حدوث ما استدل بها عليه ، كما قلنا آنفا في احتمال نزول آية استنكار الاستغفار للمشركين في المدينة ، وإن كان ما ذكروه من سببها حدث بمكة قبل الهجرة .

ولم يكتب الصحابة ، ولا من بعدهم البسملة في أولها ؛ لأنها لم تنزل معها كما نزلت مع غيرها من السور . هذا هو المعتمد المختار في تعليله ، وقيل : رعاية لمن كان يقول إنها مع الأنفال سورة واحدة ، والمشهور أنه لنزولها بالسيف ونبذ العهود ، وقيل غير ذلك مما في جعله سببا وعلة نظر ، وقد يقال : إنه حكمة لا علة . ومما قاله بعض العلماء في هذه الحكمة : إنها تدل على أن البسملة آية من كل سورة ، أي : لأن الاستثناء بالفعل كالاستثناء بالقول معيار العموم .

وقد ورد لها أسماء كثيرة هي صفات لأهم ما اشتملت عليه ، فمنها : سورة الفاضحة لما فضحته من سرائر المنافقين ، وإنبائهم بما في قلوبهم من الكفر وسوء النيات . وهذا الاسم روي عن عمر وابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ ومنها المنفرة ، والمعبرة ، والمبعثرة ، والمثيرة ، والبحوث كـ ( صبور ) لتنفيرها وتعبيرها عما في القلوب وبحث ذلك وإثارته وبعثرته ، وكذا المدمدمة ، والمخزية ، والمنكلة ، والمشردة ، ومعاني هذه الألقاب ظاهرة في معنى فضيحتها للمنافقين ، وما يترتب عليها من الدمدمة عليهم والخزي والنكال والتشريد بهم [ ص: 132 ] ومنها المقشقشة . قال الزمخشري : وهي تقشقش من النفاق ، أي تبرئ منه . وأشهرها الثابت التوبة وبراءة ، وسائر الأسماء ألقاب لبيان معانيها . وقد نزل معظمها بعد غزوة تبوك وهي آخر غزواته ـ صلى الله عليه وسلم ـ وفي حال الاستعداد لها في زمن العسرة والخروج إليها في القيظ ، وفي أثنائها ظهر من آيات نفاق المنافقين ما كان خفيا من قبل .

وقد صرحوا بأن أولها نزل سنة تسع بعد فتح مكة ، فأرسل النبي صلوات الله وسلامه عليه عليا عليه السلام ، ليقرأها على المشركين في الموسم كما يذكر مفصلا في محله .

وفي صحيح البخاري وغيره عن البراء قال : آخر آية نزلت : يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ( 4 : 176 ) وآخر سورة نزلت براءة . وهو رأي له لا رواية مرفوعة ، ويحمل قوله في الآية على أنها آخر ما نزل في الكلالة ، فهي بعد آيات المواريث ، وفي السورة على بعضها أو معظمها . وأرجح ما ورد في آخر آية نزلت أنه قوله تعالى : واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ( 2 : 281 ) أو ما قبلها من آيات الربا من دونها ، والأرجح أن يقال معها . وتقدم تفصيل المسألة في آخر سورة البقرة [ ص88 ج 3 ط الهيئة ] وأما آخر سورة نزلت تامة فالأرجح أنها سورة النصر ، وقد عاش ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعدها أياما قليلة .

وأما التناسب بينها وبين ما قبلها ، فإنه أظهر من التناسب بين سائر السور بعضها مع بعض ، فهي كالمتممة لسورة الأنفال في معظم ما فيها من أصول الدين وفروعه ، والسنن الإلهية والتشريع - وجله في أحكام القتال ، وما يتعلق به من الاستعداد له ، وأسباب النصر فيه ، وغير ذلك من الأمور الروحية والمالية ، وأحكام المعاهدات والمواثيق من حفظها ونبذها عند وجود المقتضي له ، وأحكام الولاية في الحرب وغيرها بين المؤمنين بعضهم مع بعض ، والكافرين بعضهم مع بعض ، كذا أحوال المؤمنين الصادقين والكفار والمذبذبين من المنافقين ومرضى القلوب ، فما بدأ به في الأولى أتم في الثانية . ولولا أن أمر القرآن في سوره ومقاديرها موقوف على النص لكان هذا الذي ذكرناه مؤيدا من جهة المعاني لمن قال إنهما سورة واحدة ، كما يؤيده من ناحية ترتيب السور بحسب طولها وقصرها ، وتوالي السبع الطوال منها ، ويليها المئون والأنفال دونها .

مثال ذلك ( 1 ) أن العهود ذكرت في سورة الأنفال ، وافتتحت سورة التوبة بتفصيل الكلام فيها ، ولا سيما نبذها الذي قيد في الأولى بخوف خيانة الأعداء .

( 2 ) تفصيل الكلام في قتال المشركين ، وأهل الكتاب في كل منهما .

( 3 ) ذكر في الأولى صد المشركين عن المسجد الحرام ، وأنهم ليسوا بأوليائه : إن أولياؤه إلا المتقون ( 8 : 34 ) أي من المؤمنين ، وجاء في الثانية : ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله ( 9 : 17 ) إلى آخر الآيات .

[ ص: 133 ] ( 4 ) ذكر في أول الأولى صفات المؤمنين الكاملين ، وذكر بعد ذلك بعض صفات الكافرين ، ثم ذكر في آخرها حكم الولاية بين كل من الفريقين كما تقدم ، وجاء في الثانية مثل هذا في مواضع أيضا .

( 5 ) ذكر في الأولى الترغيب في إنفاق المال في سبيل الله ، وجاء مثل هذا الترغيب بأبلغ من ذلك وأوسع في الثانية ، وذكرت في الأولى مصارف الغنائم من هذه الأموال ، وفي الثانية مصارف الصدقات .

( 6 ) ورد ذكر المنافقين والذين في قلوبهم مرض في الأولى في آية واحدة ، وفصل في الثانية أوسع تفصيل ، حتى كانت أجدر بأن تسمى سورة " المنافقون " من سورة " 63 " إذا جاءك المنافقون لو كانت تسمية السور بالرأي .

التالي السابق


الخدمات العلمية