1. الرئيسية
  2. تفسير المنار
  3. سورة التوبة
  4. تفسير قوله تعالى براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فسيحوا في الأرض أربعة أشهر
صفحة جزء
وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله هذه الجملة معطوفة على ما قبلها ، مصرحة بالتبليغ الصريح الجهري العام للبراءة من المشركين ، أي من عهودهم ، وسائر خرافات شركهم وضلالاته ، ومبينة لوقته الذي لا يسهل تعميمه إلا فيه ، وهو يوم الحج الأكبر ، وفي تعيينه خلاف سيذكر مع ترجيح أنه عيد النحر الذي تنتهي فيه فرائض الحج وأركانه ، ويجتمع الحاج فيه لإتمام واجبات المناسك وسننها في منى . والأذان : النداء الذي يطرق الآذان بالإعلام بما ينبغي أن يعلمه الخاص والعام ، وهو اسم من التأذين ، قال تعالى : ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون ( 12 : 70 ) ومنه الأذان للصلاة . وأذن بها أعلم ، وآذنه بالشيء إيذانا أعلمه به . وأذن بالشيء ( كعلم ) علمه ، وأذن له ( كتعب ) استمع . وأعاد التصريح في هذا الأذان بكونه من الله باسم الذات ، ومن رسوله بصفة التبليغ الذي تقتضيه الرسالة كما صرح بهما في البراءة ، وصرح في الموضعين بذكر المشركين بعنوان الشرك ووصفه ، وذلك لتأكيد هذا الحكم ، وتأكيد تبليغه من جميع وجوهه . ثم أكد ما يجب أن يبلغوه من ذلك بما أوجب أن يخاطبوا به من غير تأخير بقوله : فإن تبتم أي : قولوا لهم : فإن تبتم بالرجوع عن شرككم ، وما زينه لكم من الخيانة والغدر بنقض العهود ، وقبلتم هداية الإسلام فهو خير لكم في الدنيا والآخرة ؛ لأن هداية الإسلام هي السبب لسعادتهما وإن توليتم أي : أعرضتم عن إجابة هذه الدعوة إلى التوبة فاعلموا أنكم غير معجزي الله أي : غير فائتيه بأن تفلتوا من حكم سننه ووعده لرسله والمؤمنين بالنصر كما تقدم آنفا وبشر الذين كفروا بعذاب أليم وهذا خطاب للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأنه نبأ عن الغيب ، الذي لا يمكن علمه إلا بوحي الله عز وجل ، وقد تقدم في هذا التفسير أن البشارة ما يؤثر في البشرة من الأنباء ، إما بالتهلل ، وإشراق الوجه وهو السرور الذي تنبسط فيه أسارير الجبهة وتتمدد ، وإما بالعبوس والبسور ، وتقطيب الوجه من الكدر أو الحزن أو الخوف . وغلب في الأول حتى ذهب الأكثرون إلى كونه حقيقة فيه ، وأن استعماله فيما يسوء ويكدر إنما يقال من باب التهكم [ ص: 138 ] ثم استثنى من هؤلاء الذين تبرأ من عهودهم ، وأمر بوعيدهم وتهديدهم ، وضرب لهم موعد الأربعة الأشهر ، من حافظوا على عهدهم بالدقة التامة والإخلاص فقال : إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم قال الحافظ ابن كثير : هذا استثناء من ضرب مدة التأجيل بأربعة أشهر لمن له عهد مطلق ليس بمؤقت ، فأجله أربعة أشهر يسيح في الأرض يذهب فيها ، لينجو بنفسه حيث شاء إلا من له عهد مؤقت فأجله إلى مدته المضروبة التي عوهد عليها ، وقد تقدمت الأحاديث ، ومن كان له عهد مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فعهده إلى مدته المضروبة . وذلك بشرط ألا ينقض المعاهد عهده ، ولم يظاهر على المسلمين ، أي يمالئ عليهم من سواهم ، فهذا الذي يوفى له بذمته ، وعهده إلى مدته اهـ .

وقال البغوي : المراد بهؤلاء الذين استثناهم الله تعالى بنو ضمرة وحي من كنانة ، وقال السدي : هؤلاء بنو ضمرة وبنو مدلج ، حيان من بني كنانة ، كانوا حلفاء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في غزوة العسرة من بني تبيع . وقال مجاهد : كان لبني مدلج وخزاعة عهد ، فهو الذي قال الله : فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم وقال محمد بن عباد بن جعفر : هم بنو خزيمة بن عامر من بني بكر بن كنانة . ولكن قال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : هم مشركو قريش الذين عاهدهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ زمن الحديبية ، وكان قد بقي من مدتهم أربعة أشهر بعد يوم النحر ، فأمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يوفي لهم بعهدهم هذا إلى مدتهم ، ذكر هذه الأقوال في الدر المنثور . والصواب : أن هذا اللفظ عام ، وتعيين المراد منه بأسماء القبائل لا يتعلق به عمل بعد ذلك الزمان .

والآية تدل على أن الوفاء بالعهد من فرائض الإسلام ما دام العهد معقودا ، وعلى أن العهد المؤقت لا يجوز نقضه إلا بانتهاء وقته ، وأن شرط وجوب الوفاء به علينا محافظة العدو المعاهد لنا عليه بحذافيره ، من نص القول وفحواه ولحنه المعبر عنهما في هذا العصر بروحه ، فإن نقض شيئا ما من شروط العهد ، وأخل بغرض ما من أغراضه عد ناقضا له ، إذ قال : ثم لم ينقصوكم شيئا ولفظ شيء أعم الألفاظ ، وهو نكرة في سياق النفي ، فيصدق بأدنى إخلال بالعهد ، وقرئ في الشواذ " ينقضوكم " بالضاد المعجمة ، والمهملة أبلغ - ومن الضروري أن من شروطه التي ينتقض بالإخلال بها عدم مظاهرة أحد من أعدائنا وخصومنا علينا ، وقد صرح بهذا للاهتمام به ، وإلا فهو يدخل في عموم ما قبله ، وذلك أن الغرض الأول من المعاهدات ترك قتال كل من الفريقين المتعاهدين للآخر ، وحرية التعامل بينهما ، فمظاهرة أحدهما لعدو الآخر ، أي معاونته ومساعدته على قتاله ، وما يتعلق به ، كمباشرته للقتال وغيره بنفسه ، يقال : ظاهره إذا عاونه وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم [ ص: 139 ] ( 33 : 26 ) وظاهره عليه إذا ساعده عليه . وتظاهروا عليهم تعاونوا وكله من الظهر الذي يعبر به عن القوة ، ومنه بعير ظهير ، ويحتمل أن يكون من الظهور .

إن الله يحب المتقين أي : لنقض العهود وإخفار الذمم ، ولسائر المفاسد المخلة بالنظام والعدل العام .

التالي السابق


الخدمات العلمية