1. الرئيسية
  2. تفسير المنار
  3. سورة التوبة
  4. تفسير قوله تعالى فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم
صفحة جزء
فإن تابوا أي : فإن تابوا عن الشرك ، وهو الذي يحملهم على عداوتكم وقتالكم ، بأن دخلوا في الإسلام - وعنوانه العامالنطق بالشهادتين ، وكان يكتفى منهم بإحداهما - وأقاموا الصلاة المفروضة معكم كما تقيمونها في أوقاتها الخمسة ، وهي مظهر الإيمان ، وأكبر أركانه المطلوبة في كل يوم من الأيام ، ويتساوى في طلبها وجماعتها الغني والفقير ، والمأمور والأمير - وهي حق العبودية لله تعالى على عباده ، وأفضل مزك لأنفسهم يؤهلهم للقائه ، وأفعل مهذب لأخلاقهم بعدها للقيام بحقوق عباده إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر [ ص: 152 ] ( 29 : 45 ) وآتوا الزكاة المفروضة في أموال الأغنياء للفقراء وللمصالح العامة ، وهي الركن المالي الاجتماعي من أركان الإسلام التي يقوم بها نظامه العام فخلوا سبيلهم فاتركوا لهم طريق حريتهم بالكف عن قتالهم إذا كانوا مقاتلين ، وعن حصرهم إن كانوا محصورين ، وعن رصد مسالكهم إلى البيت الحرام وغيره حيث يكونون مراقبين إن الله غفور رحيم يغفر لهم ما سبق من الشرك وأعماله ، ويرحمهم فيمن يرحم من عباده المؤمنين ؛ لأن الإسلام يجب ما قبله .

والآية تفيد دلالة إقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة على الإسلام ، وتوجب لمن يؤديهما حقوق المسلمين من حفظ دمه وماله إلا بما يوجبه عليه شرعه من جناية تقتضي حدا معلوما ، أو جريمة توجب تعزيرا أو تغريما .

واستدل بها بعض أئمة الفقه على كفر من يترك الصلاة ، ويمتنع عن أداء الزكاة ، وذلك أنها اشترطت في صحة إسلام المشركين ، وعصمة دمائهم مجموع الثلاثة الأشياء : ترك الشرك ، وإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة . فإذا فقد شرط منها لم يتحقق الإسلام الذي يعصم دم المشرك المقاتل . ومفهوم الشرط من ضروريات اللغة ، ومراء بعض الجدليين من الأصوليين فيه مردود لا قيمة له . وقال بعضهم : بل يكفر تارك الصلاة دون مانع الزكاة لإمكان أخذها منه بالقهر ، ووجوب قتال مانعيها كما فعل أبو بكر .

وقد عززوا هذا الاستدلال بالأحاديث الصحيحة في معناها كحديث عبد الله بن عمر مرفوعا أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، ويقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة ، فإن فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله رواه الشيخان ، وحديث أنس عند البخاري وأصحاب السنن الثلاثة : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله ، فإذا قالوها وصلوا صلاتنا واستقبلوا قبلتنا وذبحوا ذبيحتنا فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله ولم تذكر فيه الزكاة ، ولكن اشترط فيه أن يذبحوا ذبيحتنا ، والمراد لازمها وهو ترك ذبائح الشرك ، يعني إن ذبحوا وجب أن يذبحوا باسم الله دون اسم غيره من معبوداتهم التي كانوا يهلون بأسمائها عند الذبح .

وقد ورد معنى هذا الحديث في الصحاح والسنن بألفاظ مختلفة منها الاقتصار على الشهادتين كحديث أبي هريرة المتفق عليه ، بل صرحوا بتواتره كما في الجامع الصغير ، وهو : أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله ، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله وفي بعضها الاقتصار على كلمة : " لا إله إلا الله " ومن ثم اختلف الفقهاء في المسألة ، فقال بعضهم : إن ترك الصلاة ، ومنع الزكاة [ ص: 153 ] من المعاصي لا يخرج تارك إحداهما ولا كلتيهما من الإسلام ، كما يقتضيه هذا الحديث ، وهو أصح من حديثي ابن عمر وأنس ، وقال الآخرون : إن فيهما زيادة على ما في حديث أبي هريرة وزيادة الثقة مقبولة ، والمطلق يحمل على المقيد .

والتحقيق أن المراد من الآية والأحاديث المختلفة الألفاظ في معناها واحد ، وهو ترك الكفر والدخول في الإسلام ، وللدخول في الإسلام صيغة وعنوان يكتفى به في أول الأمر ، ولا سيما مواقف القتال ، وهو النطق بالشهادتين . وقد يكتفى من المشرك بكلمة : " لا إله إلا الله " ؛ لأنهم كانوا ينكرونها ، وهي أول ما دعوا إليه ، بل أنكر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على خالد بن الوليد قتل من قتل من بني جذيمة بعد قولهم " صبأنا " وقال : " اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد " وذلك أنهم كانوا يعبرون بهذه الكلمة عن الإسلام فيقولون : صبأ فلان ، إذا أسلم ، والحديث في مواضع من صحيح البخاري وغيره .

وقد كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول في كل مقام ما يناسبه ، والمراد واحد يعلم من جملة أقواله علما قطعيا ، وهو ما ذكرنا من ترك الكفر ، والدخول في الإسلام الذي لا يتحقق بعد النطق بعنوانه من الشهادتين أو إحداهما في بعض المواضع إلا بإقامة أركانه ، والتزام أحكامه بقدر الاستطاعة ، بحيث إذا ترك المسلم شيئا منها بجهالة من ثورة غضب أو ثورة شهوة أو كسل تاب إلى الله تعالى واستغفره .

ومن المعلوم أن اليهود من أهل الكتاب كانوا يقولون : " لا إله إلا الله " فالنطق بها وحدها من أحدهم لا يدل على قبول الإسلام كما يدل قول أحد مشركي العرب لها ، ووجدت طائفة منهم كانت تقول : إن محمدا رسول الله إلى العرب وحدهم ، وقد اتفق علماؤنا بحق على أن من قال منهم " لا إله إلا الله محمد رسول الله " لا يعتد بإسلامه إلا إذا اعترف بعموم رسالته ـ صلى الله عليه وسلم ـ لقوله تعالى : وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ( 34 : 28 ) وما في معناه .

فالإسلام هو الإذعان العملي لما جاء به محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أمر الدين فعلا كان أو تركا . ولا يكون الإذعان بالعمل إسلاما صحيحا مقبولا عند الله تعالى إلا إذا كان إذعانا نفسيا وجدانيا يبعثه الإيمان بصحة رسالته ، فإن المنافقين كانوا يقولون للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : نشهد إنك لرسول الله ، ويصلون ويزكون ويجاهدون والله يشهد إن المنافقين لكاذبون ( 63 . 1 ) ومتى كان الإيمان يقينيا ، كان الإذعان نفسيا وجدانيا ، وتبعه العمل بالضرورة في جملة التكاليف وعامة الأوقات . ولا ينافيه ترك واجب في بعض الأوقات لصارف عارض ، أو فعل محظور لعارض غالب . بحيث إذا زال السبب ندم المخالف . ولام نفسه ، واستغفر الله ، كما تقدم آنفا ، وذلك قوله تعالى : إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب [ ص: 154 ] ( 4 : 17 ) إلخ . فمن ترك صلاة أو أكثر لبعض الشواغل ، وهو يستشعر أنه مذنب ويرجو مغفرة الله تعالى وينوي القضاء ، لا يكون تركه هذا منافيا لإذعانه النفسي لأصل الأمر والنهي الذي يقتضيه الإيمان اليقيني . وإن كان هذا الرجاء مع عدم العذر يعد من الغرور كما سنبينه قريبا . وأما عدم المبالاة بالصلاة وغيرها من فرائض الإسلام وأوامره ، وعدم الانتهاء عن الفواحش والمنكرات من نواهيه - فإنه ينافي الإذعان الذي هو حقيقة الإسلام ، ولا يعقل إيمان صحيح بغير إسلام ، ولا إسلام صحيح ظاهره كباطنه بدون إيمان ، فهما متلازمان في حال الإمكان ، فمن نطق بالشهادتين من الكفار ، وأبى أن يلتزم فرائض الإسلام ، وترك محرماته القطعية مصرحا بذلك لا يعتد بإسلامه ، ومن لم يصرح ، ولم يفعل فهو مخادع قطعا ، وقد يظهر القيام ببعضها نفاقا ، كما ثبت عن بعض الإفرنج السياسين أنهم أظهروا الإسلام لدخول الحجاز أو اختبار المسلمين .

التالي السابق


الخدمات العلمية