1. الرئيسية
  2. تفسير المنار
  3. سورة التوبة
  4. تفسير قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا
صفحة جزء
وقد اختلف الفقهاء في دخول غير المشركين من الكفار المسجد الحرام وغيره من المساجد وبلاد الإسلام ، وقد لخص أقوالهم البغوي في تفسير الآية ، ونقله عنه الخازن ببعض تصرف وبغير عزو فقال : وجملة بلاد الإسلام في حق الكفار ثلاثة أقسام : ( القسم الأول ) الحرم ، فلا يجوز لكافر أن يدخله بحال ذميا كان أو مستأمنا لظاهر هذه الآية ، وبه قال الشافعي وأحمد ومالك ، فلو جاء رسول من دار الكفر والإمام في الحرم فلا يأذن له في دخول الحرم ، بل يخرج إليه بنفسه أو يبعث إليه من يسمع رسالته خارج الحرم ، وجوز أبو حنيفة وأهل الكوفة للمعاهد دخول الحرم .

( القسم الثاني ) من بلاد الإسلام الحجاز وحده ما بين اليمامة واليمن ونجد والمدينة الشريفة ، قيل : نصفها تهامي ونصفها حجازي ، وقيل : كلها حجازي . وقال الكلبي : [ ص: 245 ] حد الحجاز ما بين جبلي طيئ وطريق العراق ، سمي حجازا; لأنه حجز بين تهامة ونجد ، وقيل : لأنه حجز بين نجد والسراة ، وقيل : لأنه حجز بين نجد وتهامة والشام . قال الحربي : وتبوك من الحجاز . فيجوز للكفار دخول أرض الحجاز بالإذن ، ولكن لا يقيمون فيها أكثر من مقام المسافر وهو ثلاثة أيام . ( روى مسلم ) عن ابن عمر أنه سمع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : " لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب فلا أترك فيها إلا مسلما " زاد في رواية لغير مسلم وأوصى فقال : " أخرجوا المشركين من جزيرة العرب " فلم يتفرغ لذلك أبو بكر وأجلاهم عمر في خلافته وأجل لمن يقدم تاجرا ثلاثا . عن ابن شهاب أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : لا يجتمع دينان في جزيرة العرب أخرجه مالك في الموطأ مرسلا . ( وروى مسلم ) عن جابر قال : سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم " قال سعيد بن عبد العزيز : جزيرة العرب ما بين الوادي إلى أقصى اليمن إلى تخوم العراق إلى البحر ، وقال غيره : حد جزيرة العرب من أقصى ( عدن أبين ) إلى ريف العراق في الطول ، ومن جدة وما والاها من ساحل البحر إلى أطراف الشام عرضا . ( القسم الثالث ) سائر بلاد الإسلام ، فيجوز للكافر أن يقيم فيها بعهد وأمان وذمة ، ولكن لا يدخلون المساجد إلا بإذن مسلم اهـ .

وقد ذكرنا الأحاديث الصحيحة في أمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بإخراج المشركين وأهل الكتاب من جزيرة العرب ، وألا يبقى فيها دينان ، مع بيان حكمة ذلك في خاتمة الكلام على معاملة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لليهود في السلم والحرب وإجلائهم من جواره في المدينة ، وإجلاء عمر ليهود خيبر وغيرهم ونصارى نجران عملا بوصيته في مرض موته ـ صلى الله عليه وسلم ـ [ ص51 ج 10 ط الهيئة ] .

وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء العيلة : الفقر ، يقال : عال الرجل يعيل عيلا وعيلة ( ككال يكيل ) إذا افتقر فهو عائل ، وأعال كثر عياله ، وهو يعول عيالا كثيرين أي يمونهم ويكفيهم أمر معاشهم . ونكر العيلة ; لأن المراد بها ضرب من ضروبها التي يخشاها أهل مكة ، وهي ما يحدث من قلة جلب الأرزاق إليها والمتاع بالتجارة ، وإنما كان يجلبها المشركون من تجارها ، وممن حولها من أصحاب المزارع في شعابها ووديانها وما يقرب منها من البلاد ذات البساتين والمزارع كالطائف ، وكذا ما كانوا [ ص: 246 ] يسوقونه من الهدي للحرم ، ويتمتع به فقراؤه ، فأزال تعالى ما كانوا يخافون من العيلة بقلة مواد المعيشة إذا منع المشركون من المجيء إليها بوعدهم بأن يغنيهم من فضله إن شاء ، وفضله كثير فقد صاروا بعد الإسلام . ومنع المشركين من الحرم أغنى مما كانوا قبل ذلك ، وقد جاءهم الغنى من طرق كثيرة ، أسلم أهل اليمن فصاروا يجلبون لهم الميرة ، بل أسلم أولئك المشركون ولم يبق أحد منهم يمنع من الحرم ، ولا من المسجد ، ثم تفجرت ينابيع الغنى والثروة من كل جانب كما سيأتي .

قال ابن عباس : كان المشركون يجيئون إلى البيت ، ويجيئون معهم بالطعام يتجرون فيه ، فلما نهوا أن يأتوا البيت قال المسلمون : فمن أين لنا الطعام ؟ فأنزل الله وإن خفتم عيلة إلخ . قال : فأنزل الله عليهم المطر ، وكثر خيرهم حين ذهب المشركون عنهم . وفي رواية عنه : ألقى الشيطان في قلوب المؤمنين فقال : من أين تأكلون ، وقد نفي المشركون ، وانقطعت عنكم العير ؟ قال الله تعالى : وإن خفتم عيلة إلخ . فأمرهم بقتال أهل الكفر وأغناهم من فضله اهـ . ويعني هنا الغنائم ، وفي معناه عن سعيد بن جبير قال : أغناهم الله تعالى بالجزية الجارية . وليس المراد أن الجملة الأولى نزلت وحدها ، فلما قالوا ما قالوا وخافوا ما خافوا من عواقبها نزلت الجملة الشرطية التالية لها ، بل نزلت الآية كلها مع ما قبلها وما بعدها دفعة واحدة ( كما تقدم في غيرها ) وكان الله تعالى يعلم ما توسوس به أنفسهم ، وما يلقيه المنافقون والشيطان في قلوب بعضهم من ذلك إذا لم يكن النهي مقرونا بهذا الوعد ، فلم يدع لذلك مجالا .

وأما الغنى من فضل الله فهو أعم مما ورد في الروايات معينا ومبهما ، فقد أغنى الله المؤمنين من العرب السابقين إلى الإسلام ثم من سائر المسلمين جميع أنواع الغنى ، فتح لهم البلاد ، وسخر لهم العباد ، فكثرت الغنائم والخراج ، ومهد لهم سبل الملك والملك ، وبسط لهم في الرزق ، من إمارة وتجارة وزراعة وصناعة ، وكان نصيب مكة نفسها من ذلك عظيما بكثرة الحاج وأمن طرق التجارة .

وقيد هذا الغنى بقوله : فسوف يغنيكم الله من فضله للدلالة على أن هذا الوعد إنما يكون أكثره في المستقبل لا في الحال ، وعلى أنه واسع بسعة فضله تعالى ، وغيب لا يخطر لهم أكثره ببال ، وقد صدق وعده به فكان من معجزات القرآن ، وقيده بمشيئته التي لا يشك مؤمن في حصول كل ما تتعلق به ، وأن ما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن - لتقوية إيمانهم ، ونوط آمالهم بربهم ، واتكالهم عليه دون مجرد كسبهم ، وإن كانوا مأمورين بالكسب ، لأنه من سننه تعالى في الخلق ، ولكن لا يجوز أن ينسبهم توفيقه وتأييده لهم ، فهو الذي نصرهم وأغناهم فيما مضى كما وعدهم ، وسيزيدهم نصرا وغنى إذا هم وفوا بما شرطه عليهم [ ص: 247 ] بمثل قوله : إن تنصروا الله ينصركم ( 47 : 7 ) وما في معناه مما سبق التذكير بمواضعه في تفسير سورة الأنفال وغيرها . وإنما كان قيد المشيئة بالجملة الشرطية المصدرة بـ ( إن ) والأصل فيها عدم الجزم بوقوع شرطها ; لأن متعلقها مما مضت سنته تعالى فيه أن يكون بأسباب كسبية لابد من قيامهم بها ، وتوفيق منه تعالى لا تتم بدونه مسبباتها ، وكل من الأمرين مجهول عندهم لا يمكنهم القطع بحصوله ، وحكمة إبهامه أن يوجهوا همتهم إلى القيام بما يجب عليهم لاستحقاقه ، ولما كانت مشيئته تعالى تجري بمقتضى علمه وحكمته جعل فاصلة الآية قوله : إن الله عليم حكيم أي: عليم بما يكون من مستقبل أمركم في الغنى والفقر حكيم فيما يشرعه لكم من نهي وأمر ، كنهيه عن قرب المشركين للمسجد الحرام بعد ذلك العام ( تسعة من الهجرة ) ونهيه قبله عن اتخاذ آبائكم وإخوانكم منهم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان . وأمركم قبل ذلك بقتال المشركين بعد انقضاء عهودهم بأربعة أشهر وعلمه بمصالحكم ومنافعكم وحكمته فيما يشرع من الأمر والنهي لكم ، تامان كاملان متلازمان ، فإذا علمتم ذلك ، وعلمتم ما شرعه لكم ، وما قيد به وعده بالجزاء عليه ، والمزيد من فضله ، رأيتم مشيئته عز وجل موافقة لذلك كله .

التالي السابق


الخدمات العلمية