1. الرئيسية
  2. تفسير المنار
  3. سورة البقرة
  4. تفسير قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون
صفحة جزء
( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ) هذه الآية مستأنفة لبيان تلك الأيام المعدودات التي كتبت علينا وأنها أيام شهر رمضان ، وأن الحكمة في تخصيص هذا الشهر بهذه العبادة هي أنه الشهر الذي أنزل فيه القرآن ، وأفيضت على البشر فيه هداية الرحمن ، ببعثة محمد [ ص: 128 ] خاتم النبيين - عليه الصلاة والسلام - ، بالرسالة العامة للأنام ، الدائمة إلى آخر الزمان ; فالمراد بإنزال القرآن فيه بدؤه وأوله ( هدى للناس ) أي : أنزل حال كونه هدى كاملا للناس كافة ( وبينات من الهدى ) أي : وآيات بينات واضحات لا لبس في حقيتها ، ولا خفاء في حكمها وأحكامها ، من جنس الهدى الذي جاء به الرسل من قبل ، ولكنه أبينه وأكمله ( والفرقان ) الذي يفرق للمهتدي به بين الحق والباطل ، ويفصل بين الفضائل والرذائل ، فحق أن يعبد الله تعالى فيه ما لا يعبد في غيره تذكرا لإنعامه بهذه الهداية وشكرا عليها . والحكمة في ذكر الأيام مبهمة أولا وتعيينها بعد ذلك : أن ذلك الإبهام الذي يشعر بالقلة يخفف وقع التكليف بالصيام الشاق على النفوس وهو الأصل ; إذ ليس رمضان عاما في الأرض كما سيأتي بيانه قريبا .

ثم إن هذا التعيين والبيان بعد ذكر حكمة الصيام وفائدته وذكر الرخص لمن يشق عليه ، وذكر خيرية الصيام في نفسه واستحباب التطوع فيه ، وكل ذلك مما يعد النفس لأن تتلقى بالقبول والرضى جعل تلك الأيام شهرا كاملا .

وانظر كيف ابتدأ هنا بذكر شهر رمضان وإنزال القرآن فيه ، ووصف القرآن بما وصفه به حتى كأنه يحكي عنه لذاته بعد الانتهاء من حكم الصوم ، ثم ثنى بالأمر فلم يفاجئ النفوس به مع ذلك التمهيد له حتى قدم العلة على المعلول ، ولعل هذا من حكمة حذف خبر المبتدأ إذا قلنا إن كلمة ( شهر رمضان ) مبتدأ ، أو حذف المبتدأ إذا قلنا إنها خبر لمحذوف .

وقال الأستاذ الإمام : إن حذف الخبر جار على ما نعهده من إيجاز القرآن بحذف ما لا يقع الاشتباه بحذفه ، وإن البيان بعد الإبهام جاء على أسلوبه في ذكر الأشياء ثم ذكر علتها وحكمتها ، وهي هنا إنزال القرآن الذي هدانا الله تعالى به وجعله آيات بينات من الهدى ; أي : من الكتب المنزلة ، والفرقان الذي يفرق بين الحق والباطل ، فوصفه بأنه هدى في نفسه لجميع الناس ، وأنه من جنس الكتب الإلهية ، ولكنه الجنس العالي على جميع الأجناس ، فإنه آيات بينات من ذلك الهدى السماوي ، وكتب الله كلها هدى ولكنها ليست في بيانها كالقرآن ، واضرب لهم مثلا كتاب دانيال النبي فإن الله ما أنزله عليه إلا ليهتدي به من يقرؤه عليهم ولكنه لم يكن آيات بينات ، بل هو كالألغاز والرموز لا يفهم إلا بعناء ، وكذلك التوراة التي سماها الله تعالى ( نورا وهدى ) ( 6 : 91 ) فيها غوامض ومشكلات وقع الاشتباه فيها ، فلم يكن ضياء الحق والهداية متبلجا وساطعا من سطورها سطوعه من القرآن . والذي نراه في الأناجيل أن تلاميذ المسيح أنفسهم ما كانوا يفهمون كل ما يخاطبهم به من المواعظ والأحكام والبشائر وهي الإنجيل الحقيقي في اعتقادنا .

أقول : بل فيها أن المسيح قال لهم إنه لم يقل لهم كل شيء ، وأن ثم أشياء كثيرة ينبغي أن تقال لهم ; أي : لولا الموانع منها في عهده ، وبشرهم بأنه سيأتي بعده الفارقليط روح الحق [ ص: 129 ] الذي يقول لهم كل شيء - يعني محمدا خاتم النبيين عليهما الصلاة والسلام - وسيرى القارئ تفصيل ذلك في تفسير سورة الأعراف ولكن لم ينقل إلينا أن الصحابة عمي عليهم شيء من آيات القرآن فلم يفهموها ، ولا أن علماء السلف حاروا في شيء منها ، فالقرآن يمتاز على سائر الكتب السماوية بأنه آيات بينات من الهدى الذي توصف به كلها ، وبينات من الأمر الإلهي الفارق بين الحق والباطل ، بيد أن المقلدين من المسلمين لم يرضوا كافة بأن يمتاز القرآن بالبيان الذي ليس بعده بيان والهدى لجميع الناس - كما وصف نفسه - فحاول بعضهم تغميضه ، وسلم لهم مقلدتهم أنه غامض لا يفهمه إلا أفراد من الناس أوتوا علما جما ، وفاقوا سائر البشر بعقولهم وأفهامهم ، كما فاقوهم بعلومهم ومعارفهم ، ثم زعموا أن هؤلاء الأفراد كانوا في بعض القرون الأولى وهم المجتهدون ، وأنهم قد انقرضوا ولم يأت بعدهم ولن يأتي من يسهل عليه أن يفهم القرآن ولو أحكامه فقط ، وتجد هذا القول المناقض للقرآن والناقض له مسلما بين جماهير المسلمين المقلدين ، حتى الذين يدعون أنهم علماء الدين ، ومن نبذه اهتداء بالقرآن ، ربما نبذوه بلقب الكفر والطغيان ، فأي الفريقين أحق بصدق الإيمان ؟ أما وسر الحق لولا أن المسلمين لبسوا على أنفسهم من القرآن ما يلبسون ، وحكموا فيه آراء من يقلدون لكان نور بيانه مشرقا عليهم وعلى سائر الناس ، كالشمس ليس دونها سحاب ، ولكنهم أبوا إلا أن يتبعوا سنن من قبلهم شبرا بشبر وذراعا بذراع ، ويضعوا كتبا في الدين يزعمون أن بيانها أجلى ، والاهتداء بها أولى ; لأنها بزعمهم أبين حكما ، وأقرب إلى الأذهان فهما .

قلنا : إن الله تعالى فرض علينا صيام هذا الشهر بخصوصه ، تذكيرا بنعمته علينا بإنزال القرآن فيه لنصومه شكرا له عليها ، ومن الشكر أن تكون هدايتنا بالقرآن في مثل وقت نزوله أكمل ، ومنها أن يكون الصيام موصلا إلى حقيقة التقوى ، فإذا لم ننتفع بالصيام في أخلاقنا وأعمالنا ، ولم نهتد بالقرآن في عامة أحوالنا ، فأين الانتفاع بالنعمة وأين الشكر عليها ؟ كان جبريل يدارس النبي - صلى الله عليه وسلم - القرآن في رمضان ، ولذلك كان السلف يتدارسونه فيه ويقومون ليله به لزيادة الاهتداء والاعتبار ، فماذا كان من اقتداء الخلف بهم ؟ كان أن بعض الوجهاء والأغنياء يستحضرون في رمضان من القراء من كان حسن الصوت يتغنى لهم بالقرآن في حجرات الخدم وهم في الغرفات مع أمثالهم وأقتالهم لاهون لاعبون ، ومن عساه يصغي منهم أحيانا إلى القارئ ; فإنما يريد التلذذ بسماع صوته الحسن وتوقيعه الغنائي ، فقد جعلوا القرآن إما مهجورا ، وإما لذة نفسية فصدق عليهم قوله : ( اتخذوا دينهم لعبا ولهوا ) ( 6 : 70 ) .

[ ص: 130 ] وأما معنى إنزال القرآن في رمضان - مع أن المعروف باليقين أن القرآن نزل منجما متفرقا في مدة البعثة كلها - فهو أن ابتداء نزوله كان في رمضان ، وذلك في ليلة منه سميت ليلة القدر ; أي : الشرف ، والليلة المباركة كما في آيات أخرى ، وهذا المعنى ظاهر لا إشكال فيه ، على أن لفظ القرآن يطلق على هذا الكتاب كله ، ويطلق على بعضه ، وقد ظن الذين تصدوا للتفسير منذ عصر الرواية أن الآية مشكلة ، ورووا في حل الإشكال أن القرآن نزل في ليلة القدر من رمضان إلى سماء الدنيا ، وكان في اللوح المحفوظ فوق سبع سماوات ، ثم أنزل على النبي منجما بالتدريج ، وظاهر قولهم هذا أنه لم ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان منه شيء خلافا لظاهر الآيات ، ولا تظهر المنة علينا ولا الحكمة في جعل رمضان شهر الصوم على قولهم هذا ; لأن وجود القرآن في سماء الدنيا كوجوده في غيرها من السماوات أو اللوح المحفوظ من حيث إنه لم يكن هداية لنا ، ولا تظهر لنا فائدة في هذا الإنزال ولا في الإخبار ، وقد زادوا على هذا روايات في كون جميع الكتب السماوية أنزلت في رمضان ، كما قالوا : إن الأمم السابقة كلفت صيام رمضان .

قال الأستاذ الإمام : ولم يصح من هذه الأقوال والروايات شيء وإنما هي حواش أضافوها لتعظيم رمضان ، ولا حاجة لنا بها إذ يكفينا أن الله تعالى أنزل فيه هدايتنا وجعله من شعائر ديننا ومواسم عبادتنا ، ولم يقل تعالى إنه أنزل القرآن جملة واحدة في رمضان ، ولا إنه أنزله من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا ، بل قال بعد إنزاله : ( بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ ) ( 85 : 21 ، 22 ) فهو محفوظ في لوح بعد نزوله قطعا ، وأما اللوح المحفوظ الذي ذكروا أنه فوق السماوات السبع وأن مساحته كذا ، وأنه كتب فيه كل ما علم الله تعالى فلا ذكر له في القرآن ، وهو من عالم الغيب ، فالإيمان به إيمان بالغيب يجب أن يوقف فيه عند النصوص الثابتة بلا زيادة ولا نقص ولا تفصيل ، وليس عندنا في هذا المقام نص يجب الإيمان به .

( فمن شهد منكم الشهر فليصمه ) أي : فمن حضر منكم دخول الشهر أو حلوله بأن لم يكن مسافرا فليصمه ، وإنما يكون ذلك في أكثر البلاد التي تتألف السنة منها من اثني عشر شهرا .

وشهوده فيها يكون برؤية هلاله ، فعلى كل من رآه أو ثبتت عنده رؤية غيره له أن يصوم ، وإذا لم يره أحد في الليلة الثلاثين من شعبان وجب صيام يومها وكان أول رمضان ما بعده ، والأحاديث في هذا ثابتة في الصحاح والسنن ، وجرى عليها العمل من الصدر الأول إلى اليوم . وقال بعض المفسرين : إن المراد بالشهر هنا الهلال ، وكانت العرب تعبر عن الهلال بالشهر ، ويرده أنهم لا يقولون : شهد الهلال ، وإنما يقولون : رآه ، ومعنى شهد حضر ، [ ص: 131 ] وقال بعضهم : إن المعنى فمن كان حاضرا منكم حلول الشهر فليصمه . قال الأستاذ الإمام : وإنما عبر بهذه العبارة ولم يقل ( ( فصوموه ) ) لمثل الحكمة التي لم يحدد القرآن مواقيت الصلاة لأجلها ، وذلك أن القرآن خطاب الله العام لجميع البشر ، وهو يعلم أن من المواقع ما لا شهور فيها ولا أيام معتدلة ، بل السنة كلها قد تكون فيها يوما وليلة تقريبا كالجهات القطبية ، فالمدة التي يكون فيها القطب الشمالي في ليل - وهي نصف السنة - يكون القطب الجنوبي في نهار وبالعكس ، ويقصر الليل والنهار ويطولان على نسبة القرب والبعد عن القطبين ويستويان في خط الاستواء وهو وسط الأرض .

أرأيت هل يكلف الله تعالى من يقيم في جهة القطبين وما يقرب منهما أن يصلي في يومه - وهو سنة أو مقدار عدة أشهر - خمس صلوات إحداها حين يطلع الفجر ، والثانية بعد زوال الشمس إلخ ، ويكلفه أن يصوم شهر رمضان بالتعيين ولا رمضان له ولا شهور ؟ كلا إن من الآيات الكبرى على كون هذا القرآن من عند الله المحيط علمه بكل شيء - لا من تأليف البشر - ما تراه فيه من الاكتفاء بالخطاب العام الذي لا يتقيد بزمان من جاء به ولا مكانه ، ولو كان من عند النبي - صلى الله عليه وسلم - لكان كل ما فيه مناسبا لحال زمانه وبلاده وما يليها من البلاد التي يعرفها ، ولم تكن العرب تعرف أن في الأرض بلادا نهارها كعدة أنهر أو أشهر من أنهرنا وأشهرنا ولياليها كذلك .

فمنزل القرآن - وهو علام الغيوب وخالق الأرض والأفلاك - خاطب الناس كافة بما يمكن أن يمتثلوه ، فأطلق الأمر بالصلاة ، والرسول بين أوقاتها بما يناسب حال البلاد المعتدلة التي هي القسم الأعظم من الأرض ، حتى إذا وصل الإسلام إلى أهل البلاد التي أشرنا إليها يمكنهم أن يقدروا للصلوات باجتهادهم والقياس على ما بينه النبي - صلى الله عليه وسلم - من أمر الله المطلق . وكذلك الصيام ، ما أوجب رمضان إلا على من شهد الشهر وحضره ، والذين ليس لهم شهر مثله يسهل عليهم أن يقدروا له قدره ، وقد ذكر الفقهاء مسألة التقدير بعدما عرفوا بعض البلاد التي يطول ليلها ويقصر نهارها والبلاد التي يطول نهارها ويقصر ليلها ، واختلفوا في التقدير على أي البلاد يكون فقيل على البلاد المعتدلة التي وقع فيها التشريع كمكة والمدينة ، وقيل على أقرب بلاد معتدلة إليهم ، وكل منهما جائز فإنه اجتهادي لا نص فيه .

( ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر ) أعيد ذكر الرخصة لئلا يتوهم - بعد تعظيم أمر الصوم في نفسه وأنه خير ويندب التطوع به ، وبعد تحديده بشهر رمضان الذي له من الفضل والشرف ما له - أن صوم هذا الشهر حتم لا تتناوله الرخصة ، أو تتناوله ولكن لا تحمد فيه ، ولعمري إن تأكيد الصوم بمثل ما أكده الله تعالى به يقتضي تأكيد أمر الرخصة أيضا ، ولولا ذلك ما أتاها متق لله في صيامه ، بل روى المحدثون : أن بعض الصحابة [ ص: 132 ] عليهم الرضوان كانوا - على تأكيد أمر الرخصة في القرآن - يتحامون الفطر في السفر أولا ، حتى إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرهم به في بعض الأسفار فلم يمتثلوا حتى أفطر هو بالفعل ، وسمى الممتنع عن الفطر عاصيا كما تقدم .

( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) هذا تعليل لما قبله ; أي : يريد فيما شرعه من هذه الرخصة في الصيام ، وسائر ما يشرعه لكم من الأحكام ، أن يكون دينكم يسرا تاما لا عسر فيه . قال الأستاذ : إن في هذا التعبير ضربا من التحريض والترغيب في إتيان الرخصة ، ولا غرو فالله يحب أن تؤتى رخصه كما تؤتى عزائمه . وقد اختلف العلماء في الأفضل للمريض والمسافر على أقوال ثالثها ( ( التخيير ) ) .

( أقول ) : والآية تشعر بأن الأفضل أن يصوم إذا لم يلحقه مشقة أو عسر ; لانتفاء علة الرخصة ، وإلا كان الأفضل أن يفطر لوجود علتها ، ويتأكد بوجود مصلحة أخرى في الفطر كالقوة على الجهاد وتقدم بسطه ; ذلك بأن الله لا يريد إعنات الناس بأحكامه وإنما يريد اليسر بهم وخيرهم ومنفعتهم ، وهذا أصل في الدين يرجع إليه غيره ، ومنه أخذوا قاعدة ( ( المشقة تجلب التيسير ) ) وورد في هذا أحاديث كثيرة من أشهرها ( ( يسروا ولا تعسروا ، وبشروا ولا تنفروا ) ) متفق عليه من حديث أنس . والمراد بالإرادة هنا حكمة التشريع لا إرادة التكوين .

زرت بيت المقدس في عهد طلبي للعلم بطرابلس في المحرم سنة 1311هـ فاجتمعت في مدينة الخليل عليه السلام بمفتيها الرجل الصالح من آل التميمي فسألني ممتحنا : يقول الله تعالى : ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) وما يريده الله تعالى لا يجوز تخلفه عقلا ولكننا نرى العسر واقعا مشاهدا فكيف هذا ؟ قلت : إن الآية في تعليل الرخصة في الصيام للمريض والمسافر ، لا في التكوين والتقدير كالعسر في المال والرزق ، فأعجبه الجواب ودعا لي بالفتح ، ولم أكن حضرت شيئا من تفسير القرآن في ذلك العهد .

ثم قال : ( ولتكملوا العدة ) قرأ الجمهور ( لتكملوا ) بالتخفيف . من الإكمال ، وأبو بكر عن عاصم - بالتشديد - من التكميل ، واللام للتعليل وهي معطوفة على التعليل المستفاد من قوله : ( يريد الله بكم اليسر ) كأنه قال : رخص لكم في حالي المرض والسفر ; لأنه يريد بكم اليسر وأن تكملوا العدة ، فمن لم يكملها أداء لعذر المرض أو السفر أكملها قضاء بعده . وقيل : إنها لتقوية الفعل كما في قوله : ( يريدون ليطفئوا نور الله ) ( 61 : 8 ) أي : يريد الله بكم اليسر وأن تكملوا العدة ، وهو يجري في كلام البلغاء كثيرا ورجحه الأستاذ الإمام ( ولتكبروا الله على ما هداكم ) إليه من الأحكام النافعة لكم بأن تذكروا عظمته وكبرياءه وحكمته في إصلاح عباده ، وأنه يربيهم بما يشاء من الأحكام ، ويؤدبهم بما يختار من التكاليف ، ويتفضل عليهم عند ضعفهم بالرخص اللائقة بحالهم ( ولعلكم تشكرون ) [ ص: 133 ] له هذه النعم كلها ، بالقيام بها على وجهها ، وإعطاء كل من العزيمة والرخصة حقها ، فتكونوا من الكاملين .

ذهب جمهور المفسرين إلى أن في الكلام ثلاثة تعليلات مرتبة بأسلوب النشر على اللف بتقدير فعل محذوف عامل في جملة الأحكام الماضية ; أي : شرع لكم ما ذكر من صيام أيام معدودات هي شهر رمضان لمن شهده سالما صحيحا لتكملوا العدة ، والتعبير بالعدة دون عدة الشهر يشعر بما قاله الأستاذ الإمام من أن الأصل في التكليف العام للصوم هو الأيام المعدودات ، وكونها رمضان بعينه خاص بمن شهده ممن لم تتناوله الرخصة ، وهذا من دقة القرآن الغريبة وبلاغته التي لا يخطر مثلها على قلب بشر ، وشرع لكم القضاء على من أفطر في مرض يرجى برؤه أو سفر ; لتكبروه وتعظموا شأنه على ما هداكم إليه من الجمع بين الرخصة بالفطر والعزيمة بالقضاء ، وشرع لكم الفدية في حال المشقة المستمرة بالصوم ، وأراد بكم اليسر دون العسر لعلكم تشكرون هذه النعمة ، وقد صورنا ترتيب التعليل الذي ذكروه بما نراه أوضح مما صوروه به . هذا ما كتبته أولا وطبع في المرة الأولى .

وأقول الآن : إن الأظهر أن يقال : إن إكمال العدة تعليل لكون الصيام المشروع أياما معدودات ، لا بد من استيفائها أداء في حال العزيمة وقضاء في حال الرخصة ، وإرادة اليسر دون العسر تعليل للرخص الثلاث : للسفر ، والمرض ، والمشقة التي تقتضي الفدية ، والتكبير تعليل لإكمال العدة بصيام الشهر كله ، ومظهره الأكبر في عيد الفطر إذ شرع فيه التكبير القولي عامة ليله وإلى ما بعد صلاته ، وبذلك كله نكون من الشاكرين له على هذه النعم كلها وعلى غيرها .

التالي السابق


الخدمات العلمية