1. الرئيسية
  2. تفسير المنار
  3. سورة التوبة
  4. تفسير قوله تعالى وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم
صفحة جزء
قال الله تعالى ذلك قولهم بأفواههم أي: ذلك الذي قالوه في عزير والمسيح هو قولهم الذي تلوكه ألسنتهم في أفواههم ، ما أنزل به الله من سلطانه ، ولا يتجاوز حركة اللسان ، إذ ليس له مدلول في الوجود ، ولا حقيقة في مدارك العقول ، فهو كقوله تعالى: وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا ( 18 : 4 ، 5 ) وفي معناه قوله في التبني : وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل ( 33 : 4 ) وقوله في أهل الإفك إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم ( 24 : 15 ) فذكر الأفواه - وكذا الألسنة - مع العلم بها بالحس لبيان ما ذكر ، أي أنه قول لا يعدوها ولا يتجاوزها إلى شيء في الوجود فهو كما يقول العوام : " كلام فارغ " .

يضاهئون قول الذين كفروا من قبل أي: يشابهون ويحاكون فيه قول الذين كفروا من قبلهم فقالوا هذا القول أو مثله ، قيل : إن المراد بهم مشركو العرب الذين قالوا : إن الملائكة بنات الله . وقيل : إن المراد سلفهم الذين قالوا هذا القول قبلهم ، وهذا مبني على أن الكلام في اليهود والنصارى الذين كانوا في عصر نزول القرآن ، إذ لم يصل إلينا أن أحدا من سلف أولئك [ ص: 298 ] اليهود في بلاد العرب أو غيرها قالوا عزير ابن الله ، وإن كان غير بعيد في نفسه ، ولو كانت الآية نصا فيه لجزمنا به ; لأنه عدم وصول نقل إلينا فيه لا يقتضي عدم وقوعه ، والراجح المختار أن المراد بكل من اليهود والنصارى في الآية الجنس ، وهو يصدق بوقوع ذلك من بعضهم في أي عصر كان ، والمختار في مضاهأتهم للذين كفروا من قبلهم يصدق في كل من وقع ذلك منهم والله أعلم بهم ، وقد علمنا من تاريخ قدماء الوثنيين في الشرق والغرب أن عقيدة الابن الله ، والحلول ، والتثليث ، كانت معروفة عند البراهمة في الهند والبوذيين فيها وفي الصين واليابان وقدماء الفرس والمصريين واليونان والرومان ، وقد بينا هذا في تفسير آية : ( 4 : 171 ) التي تقدمت الإشارة إليها آنفا وهذا البيان لهذه الحقيقة من معجزات القرآن ، فإنه لم يكن يعرفها أحد من العرب ، ولا ممن حولهم ، بل لم تظهر إلا في هذا الزمان ، كما يقال مثل هذا فيما بينه من حقيقة أمر كتبهم ، وسيأتي بيانه قريبا في فصل خاص .

قاتلهم الله هذه الجملة تستعمل في اللسان العربي للتعجب ، فهو المراد بها لا ظاهر معناها . قال في مجاز الأساس : وقاتله الله ما أفصحه اهـ . وحكى النقاش أن أصل " قاتله الله " الدعاء ، ثم كثر في استعمالهم حتى قالوه على التعجب في الخير والشر وهم لا يريدون الدعاء اهـ . وفسره بعضهم بالدعاء على أن المراد به اللعنة أو الهلاك . والأول أظهر أنى يؤفكون تقدم مثل هذه الجملة في الرد على قول الذين قالوا : إن الله ثالث ثلاثة من سورة المائدة إذ قال تعالى : ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون ( 5 : 75 ) ومثله في سورة الأنعام بعد الاستدلال على الخالق عز وجل : ذلكم الله فأنى تؤفكون ( 6 : 95 ) والإفك صرف الشيء عن وجهه ( وبابه من وزن ضرب ) ويقال : أفك بالبناء للمفعول بمعنى صرف عقله عن إدراك الحقيقة ، ورجل مأفوك العقل ، فمادة أفك تستعمل في صرف العقل والنفس عن الحق إلى الباطل ونحوه . والمعنى هنا : كيف يصرفون عن حقيقة التوحيد والتنزيه للخالق عز وجل ، وهو الذي تجزم به العقول والذي بلغه عن الله تعالى كل رسول ، فهو جمع بين المعقول والمنقول ، ويقولون هذا القول الذي لا يقبله عقل ، ولم يصح به عن أنبياء الله ورسله نقل ؟ فأين عزير والمسيح من رب العالمين ، الخالق لهذا الكون العظيم ، الذي وصل من عجائب سعته إلى عالم البشر القليل أن بعض شموسه [ ص: 299 ] لا يصل نورها إلى الأرض إلا بعد قطع الملايين من السنين النورية - فهل يليق بعاقل من هذه الدواب التي تعيش على هذه الذرة الصغيرة منه ( وهي الأرض ) أن يجعل لخالقه كله ومدبر أمره ، ولدا وعائلة من جنسه ، وأن يرتقي به الغرور إلى أن يجعل واحدا منهم هو الخالق له والمدبر لأمره ، مع العلم بأنه ولد من امرأة وكان يأكل ويشرب ويتعب ويتألم إلخ . . ! ؟ وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون ( 39 : 67 ) و وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين ( 21 : 26 - 29 )

وفي الآية من القراءات تنوين ( عزير ) بناء على أنه عربي بما تصرفت به العرب فجعلته بصيغة اسم التصغير ، وأن ( ابن الله ) خبر عنه لا وصف له ، وهو المروي عن عاصم والكسائي ويعقوب ، وقرأه الباقون بغير تنوين بناء على أنه اسم أعجمي فاجتمع فيه علتا العلمية والعجمة . وفيه وجه آخر في الإعراب . وقرأ عاصم ومن أخذ عنه ( يضاهئون ) بالهمز والباقون ( يضاهون ) من الناقص وهما لغتان .

التالي السابق


الخدمات العلمية