1. الرئيسية
  2. تفسير المنار
  3. سورة التوبة
  4. تفسير قوله تعالى وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم
صفحة جزء
( 3 ) محافظة الكنيسة على عقائدها وتأويلات المخالفين لها .

إننا نعتقد بما تيسر لنا من البحث والاختبار الطويل أن علماء الشعوب الأوربية ومستقلي الفكر فيهم ، لا يؤمنون بعقائد الكنيسة التي أشرنا إليها في هذا السؤال ، وفي المسألة الثانية من قضايا الجواب عنه ، ولا بأن جميع ما في كتب العهدين القديم والجديد ولا أكثره حق موحى به من الله عز وجل ، بل نعلم أن كثيرا منهم قد اهتدى بعقله واستقلال فكره إلى ما يقرب من إصلاح الإسلام للنصرانية التقليدية ، وهو أن المسيح بشر مخلوق ، ونبي رسول لا إله خالق ، بل حدثني رجل كان من كبار رجال الدين الكاثوليكي فجهر بما يعتقده مما يخالف تعاليمهم فحرمه الرئيس الأكبر منها - حدثني بأن رؤساء الكنيسة أنفسهم الذين أدركوا حقائق العلوم لا يعتقدون ألوهية المسيح ، ولا التثليث ، ولا الاستحالة في العشاء الرباني ، بل يعلمون أنها دخيلة في دين المسيح ، ولكنهم يرون أنهم إذا صرحوا بهذا تبطل ثقة النصارى بالدين من أصله ، فيتعذر على رجال الكنيسة بسقوط رياستها حملهم على الأصول الصحيحة من الدين ، وهي الفضائل والآداب وتقوى الله الصادة عن الشرور والرذائل .

هذا وإن لكبار الأذكياء منهم تأويلات يتفصون بها من منكرات تلك الكتب والتقاليد [ ص: 305 ] كتأويل عاهل الألمان الأخير ( غليوم الثاني ) بعد عثور علماء قومه على شريعة حمورابي في العراق ، وقولهم : إن جل شريعة التوراة مأخوذة عنها ، فإنه كتب كتابا لصديق له في كون هذا الأمر لا ينقض دينهم المبني على أساس التوراة أي كتب العهد القديم ; لأنه مبني على ما يسمونه الروح الذي فيها لا على نصوصها وتشريعها ، وقد قال في آخر ذلك الكتاب :

ومن البديهي عندي أن التوراة تحتوي على عدة فصول تاريخية هي من البشر لا من وحي الله ، ومن ذلك الفصل الذي ورد فيه أن الله أعطى موسى على جبل سيناء شريعة بني إسرائيل ، فإنني أعتقد أنه لا يمكن اعتبار تلك الشريعة موحى بها من الله إلا اعتبارا شعريا رمزيا ; لأن موسى قد نقل تلك الشرائع عن شرائع أقدم منها على الأرجح ، وربما كان أصلها مأخوذا من شرائع حمورابي ، ويوشك أن يجد المؤرخ اتصالا بين شرائع حمورابي صاحب إبراهيم الخليل ، وبين شرائع بني إسرائيل باللفظ والفحوى ، وذلك لا يمنع قطعيا من الاعتقاد بوحي الله لموسى ، وظهوره لبني إسرائيل بواسطته " ثم قال : وإنني أستنتج مما تقدم ما يأتي :

( 1 ) أنني أؤمن بإله واحد . ( 2 ) أننا معشر الرجال نحتاج في معرفة هذا الإله العظيم إلى شيء يمثل إرادته ، وأولادنا أشد احتياجا منا إلى ذلك .

( 3 ) أن الشيء الذي يمثل إرادة الله عندنا هو التوراة التي وصلت إلينا بالتقليد ، وإذا فندت المكشوفات الأثرية بعض رواياتها ، وذهبت بشيء من رونق الشعب المختار - شعب إسرائيل - فلا ضير في ذلك ; لأن روح التوراة يبقى سليما ، مهما يطرأ على ظاهرها من الاعتلال والاختلال ، وهذا الروح هو الله وأعماله .

إن الدين لم يكن من مستحدثات العلم ، فيختلف باختلاف العلم والتاريخ ، وإنما هو فيضان من قلب الإنسان ووجدانه بما له من الصلة بالله " هـ .

وأما مسألة المسيح ، فإنه فسرها قبل ذلك في كتابه المذكور بأن الله تعالى يظهر دائما في الجنس البشري الذي هو خليفته وصنيعته بما نفخ فيه من روحه ( قال ) : أعني أنه منحه شيئا من ذاته إذ أعطاه نفسا حية ، وإن ظهوره هذا قد يكون في كاهن ، وقد يكون في ملك ، سواء كان من الوثنيين أو اليهود أو النصارى ، وقد كان حمورابي من هؤلاء الرجال كما كان موسى وإبراهيم وهو ميروس وشارلمان ولوثر وشكسبير وجوت وقنت ( أوكونت ) والإمبراطور غليوم الكبير ( يعني جده ) . . . . ثم ذكر أن ظهور الله في [ ص: 306 ] الأشخاص يكون على حسب استعداد أممهم ودرجاتها في الحضارة ، وأنه لا يزال يظهر إلى عصرنا هذا ( يعني في شخصه ) .

فبمثل هذه التأويلات والآراء يدين أهل العقل والعلم في أوربة لا بدين الكنيسة كما يزعم دعاة النصرانية ( المبشرون ) الكذابون الخداعون ليغشوا عوام المسلمين بعظمة الإفرنج الدنيوية ، وبتسميتهم حضارة أوربة مسيحية .

وقد كان للفيلسوف تولستوي الروسي الشهير تأويل للإنجيل قريب مما قلناه في بيان حقيقته بهداية الإسلام ، وخلاصته أن إنجيل المسيح الصحيح هو عبارة عن حكمه ومواعظه التي كانت جواهر ألقيت في مزابل من الخرافات والأوهام ، وإنه هو قد عني باستخراجها وتنظيفها مما علق بها ، وشبهها بتمثال مكسر ملقى فيها ، فعثر هو عليه قطعة بعد أخرى حتى إذا تم وكمل ، علم أن عمله حق صحيح ، وألف في ذلك كتابا كبيرا سماه الأناجيل ، وسمى ما استخلصه منها الإنجيل الصحيح ، وقد سبق لنا تلخيص مقدمته التي بين فيها ما حققه في الموضوع ( ص131 و 226 و 259 م 6 منار ) .

ومما قاله فيها : " إن القارئ لا ينبغي له أن ينسى أن من الخطأ الفاحش والكذب الصراح أن يقال : إن الأناجيل الأربعة هي كتب مقدسة في جميع آياتها " وأيد ذلك بما هو مسلم عندهم من " أن المسيح لم يؤلف كتابا قط كما فعل أفلاطون وغيره من الفلاسفة ، وأنه لم يلق تعاليمه مثل سقراط على رجال من أهل العلم والأدب ، وإنما عرضها على قوم من الجهال قد خشنت طباعهم كان يصادفهم في طريقه " أي فلم يحفظوها ولم يكتبوها ، وفي هذه الأناجيل نصوص صريحة بأنهم لم يكونوا يفهمون كل كلام المسيح ولا سيما أمثاله التي كان يضربها لهم .

ثم ذكر تولستوي أنه جاء بعده بزهاء مائة عام رجال أدركوا مكانة كلماته فخطر في بالهم أن يدونوها بالكتابة ، فكانت مدوناتهم كثيرة ، ومنها ما كان محشوا بالخطأ والغلط ، وأن الكنيسة اختارت بعد ذلك من ألوف المصنفات ما رأته أقرب إلى الكمال " وأن الغلط في الأناجيل القانونية هو بقدر الغلط في الأناجيل المهملة لاعتبارها محلا للشك والارتياب ، وأن هذه الأناجيل المتروكة تشتمل أشياء جميلة ، قد تعادل ما تضمنته الأناجيل الرسمية " إلخ ومما حققه في هذه المقدمة أن دين المسيح الصحيح أجنبي عن العقيدة العبرانية ، وعقيدة الكنائس النصرانية وأن بولس لم يفهم دين المسيح ألبتة .

فهذه نصرانية هذا الفيلسوف الكبير ، وتلك عقيدة ذلك العاهل الكبير ، وما أتعب الأول في التفكير ، والآخر في التأويل ، إلا سلطان الدين الفطري على النفس ، ومشاقة [ ص: 307 ] الدين الكنيسي للعقل والعلم ، ولو أنهما اطلعا على حكم القرآن في أمر التوراة والإنجيل والمسيح وكونه من روح الله وآية من آياته ، وأن معنى كونه كلمة الله ، أنه وجد بكلمة التكوين " كن " - لكان هذا وحده برهانا كافيا لاهتدائهما بالإسلام ، واتباعهما لمحمد عليه الصلاة والسلام ، فكيف لو اطلعا على غير ذلك من الحقائق والحكم والأحكام ، على أن القليل الذي بلغهما منه قد أنطقهما بما يدلان على إكباره ، فللفيلسوف رسالة جليلة في ( حكم محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ . وللإمبراطور كلمة قالها لموسى الكاظم شيخ الإسلام في الآستانة إذ زارها في أيام الحرب الكبرى تغني عن مؤلف كبير وهي : فسروا القرآن التفسير الذي تظهر فيه علويته . . . فهو قد علم أنه علوي لا أرضي ، بل هو الحق الذي يعلو ولا يعلى ، والذي يحطم ما دونه .

التالي السابق


الخدمات العلمية