صفحة جزء
[ ص: 79 ] خلاصة سورة براءة ( التوبة )

( وهي خمسة أبواب وفيها فصول )

( هذه السورة آخر السور المدنية الطوال نزولا ، فيقل فيها ذكر أصول الدين وما يناسبها من الحجج العقلية والسنن الكونية ، وكذا أحكام العبادات البدنية - راجع مقدمة خلاصة سورة الأنفال في ص 105 و 106 والتناسب بين السورتين في ص 132 و 133 ج 10 ط الهيئة ) .

الباب الأول

( في صفات الله تعالى وأفعاله وشئونه في خلقه وأحكامه وسننه فيها )

وفيه أربعة فصول

( الفصل الأول في الأسماء والصفات الإلهية والإضافات إليه تعالى )

( 1 - الأسماء والصفات )

في هذه السورة من أسماء الله الحسنى وصفاته العلى : الغفور الرحيم ، الرءوف الرحيم ، العليم الحكيم ، العزيز الحكيم ، السميع العليم ، عالم الغيب والشهادة . ومنها المكرر مرتين وثلاثا أو أكثر ، وكل منها موضوع في موضعه المناسب لمعناه في السياق أو الآية . وأما الفائدة العامة لذكر أسماء الله تعالى وصفاته وتكرارها في المواضع المختلفة فهي تذكير تالي القرآن وسامعه المرة بعد المرة بربه وخالقه وما هو متصف به من صفات الكمال الذي يثمر له زيادة تعظيمه وحبه والرجاء في رحمته وإحسانه ، والخوف من عقابه ، لمن أعرض عن هداية كتابه ، أو خالف حكمته وسننه في خلقه ، وهذا أعلى مقاصد القرآن ، في إكمال الإيمان ، وإعلاء شأن الإنسان ( فراجعه في 106 وما بعدها ج 10 ط الهيئة ) .

ومما ورد فيها في العلم الإلهي قوله تعالى : ( ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم وأن الله علام الغيوب ) ( 9 : 78 ) وقوله : ( أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ) - إلى قوله - ( والله خبير بما تعملون ) ( 9 : 16 ) وهما أعظم ما يجدد في القلب مراقبته عز وجل عند كل قول وعمل ، وحسبك بهما وازعا ورافعا .

( 2 - المعية الإلهية )

في هذه السورة من المعية العليا قوله تعالى في آية الغار عن رسوله - صلى الله عليه وسلم - ( إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا ) ( 9 : 40 ) وهي معية النصر والمعونة ، والحفظ [ ص: 80 ] والعصمة ، والتأييد والرحمة ، كما يقتضيه المقام في حال الهجرة ، وهذه المعية أفضل من كل ما ورد في معناها ، ومن أعظمه قوله تعالى لكليمه موسى وأخيه هارون عليهما السلام : ( لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى ) ( 20 : 46 ) فراجع ( ص 369 وما بعدها ج 10 ط الهيئة ) وفي الآية ( واعلموا أن الله مع المتقين ) ( 9 : 123 ) وهذه معية النصر لأنها معطوفة على الأمر بالقتال ، ويقال في كل منها مع العلم بمعناها : إنها معية تليق به تعالى .

( 3 - الدرجة والعندية الإلهية وسكينته تعالى )

قال تعالى : ( الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله ) ( 9 : 20 ) الآية . وقد قلنا في تفسير هذه العندية ( ص 198 ج 10 ط الهيئة ) إنها حكمية ( بضم الحاء ) شرعية ، ومكانية جزائية ، أي هم أعظم درجة في الفضل والكمال في حكم الله ، وأكبر مثوبة في جوار الله .

وقال بعد بشارتهم بالرحمة والرضوان والجنات والنعيم المقيم والخلود فيها من الآية ( إن الله عنده أجر عظيم ) ( 9 : 22 ) وهو استئناف بياني ، فالعندية فيه مفسرة لما قبلها .

وقال : ( إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض ) ( 9 : 36 ) فالعندية هنا يفسرها ما بعدها وهو كتاب الله الذي كتب فيه مقادير السماوات والأرض ونظام الأيام والليالي والشهور والسنين . وقيل : كتابه المنزل الذي فيه حكمه التشريعي في الشهور ، وهو قوله بعد ما ذكر : ( منها أربعة حرم ) ( 9 : 36 ) إلخ .

وفي الآية ( ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا ) ( 9 : 52 ) فعندية العذاب عبارة عن كونه بفعله تعالى دون كسب للمؤمنين ، وهو ما يسمى بالمصائب السماوية بدليل مقابلته بقوله ( أو بأيدينا ) والإضافة في العندية الحكمية للتوقيف والتعريف ، وفي العندية المكانية للتشريف ، ومثلها إضافة السكينة إليه تعالى .

( 4 - حب الله ورضاه وكرهه وسخطه وغضبه )

قال تعالى ( إن الله يحب المتقين ) ( 9 : 7 ) وقال في المهاجرين والأنصار : ( رضي الله عنهم ورضوا عنه ) ( 9 : 100 ) وقال في جزاء المهاجرين والمجاهدين : ( ورضوان من الله أكبر ) ( 9 : 72 ) ويدخل في معناه ما صح في الأحاديث من مقام الرؤية كما بيناه في تفسيرها ، وقال في شأن المنافقين : ( فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين ) ( 9 : 96 ) .

أسند الله تعالى إلى نفسه الحب والرضا في هذه الآيات وفي سور أخرى ، كما أثبت لنفسه الكره في قوله من هذه السورة ( ولكن كره الله انبعاثهم ) ( 9 : 46 ) والسخط والغضب في سور أخرى . والمتكلمون يتأولون هذه الصفات بالإثابة والإحسان من لوازم الحب والرضا ، [ ص: 81 ] وبالعقاب من لوازم السخط والكره والغضب ، فرارا من تشبيه الخالق بعبيده الذين تعد هذه الصفات انفعالات نفسية لهم يتنزه الله عنها .

ومذهب السلف الصالح إثبات ما أثبته الله تعالى لنفسه وأثبته له رسوله من غير تعطيل ولا تمثيل ولا تأويل ، فيقولون : إن حب الله تعالى وكرهه ورضاه وغضبه صفات تليق به تترتب عليها آثارها ، وهي لا تماثل ما سمي باسمها من صفات البشر ، كما أن ذاته ونفسه وعلمه وقدرته لا تماثل ذوات البشر وعلمهم وقدرتهم بلا فرق . بل نقول : إن من خلق الله في عالم الغيب من الجن والملائكة لا يماثل في إدراكه ولا في غيرها ما في عالم الشهادة ، بل روي في ثمر الجنة أنه يشبه ثمر الدنيا وليس مثله وعن ابن عباس أنه ليس في الجنة من أطعمة الدنيا إلا الأسماء . وقال تعالى في نعيم الآخرة : ( فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين ) ( 32 : 17 ) وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - في تفسيره له قال الله تعالى : ( ( أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ) ) وأمر بقراءة الآية . متفق عليه .

وأما الكلام مع أهل التأويل من ناحية الأدلة العقلية التي يزعمون الانفراد بها دون علماء السلف فهو أن حب الحق والخير كالإيمان والعدل وأهلهما ، وكراهة الباطل كالكفر ، والشر كالظلم ومجترحيهما ، كلاهما من صفات الكمال المحض ، وكل ما كان كمالا محضا فالعقل يوجبه لواجب الوجود بأعلى مما يكون منه للوجود الممكن - فقد اتفق العقل مع النقل على إثبات هذه الصفات لله بمعنى أكمل مما هي في خيار الناس ، ولكن لا يمكن وضع أسماء لها من كلام الناس تدل على الفرق بين مسمياتها في الخالق والمخلوق ، فوجب الرجوع في ذلك إلى الوحي الفاصل وهو قوله تعالى : ( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ) ( 42 : 11 ) فالتنزيه في الجملة الأولى السالبة أزال ما يستلزمه التشبيه في الجملة الثانية الموجبة ، بل قال الشيخ محيي الدين بن عربي في تفسير هذه الآية : إن الإيمان الصحيح هو الجمع بين التنزيه والتشبيه .

التالي السابق


الخدمات العلمية