صفحة جزء
الباب الثاني

( في مكانة محمد رسول الله وخاتم النبيين عند ربه وفي هداية دينه وحقوقه على أمته )

وفيه ثلاثة فصول

( الفصل الأول في اقتران اسمه باسم ربه وحقه - صلى الله عليه وسلم - بحقه عز وجل )

وفيه أربعة عشر شاهدا

( 1 و 2 ) افتتحت هذه السورة بقوله تعالى : ( براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين ) وعطف عليها قوله تعالى : ( وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر ) ( 9 : 3 ) إلخ فقرن تعالى اسم نبيه باسمه في تبليغ أحكامه وتنفيذها .

( 3 ) قال تعالى في وصف كملة المؤمنين من الآية ( ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة ) ( 9 : 16 ) أي دخيلة وبطانة من غيرهم يطلعونهم على الأسرار ، ولهذا أشرك المؤمنين في هذا لأنه يتعلق بحقوقهم في ولاية بعضهم لبعض دون أعدائهم ، ويضرهم [ ص: 85 ] أن يكون بينهم ولائج ودخائل من غيرهم . دون ما قبله الذي هو تشريع ، هو حق الله تعالى ، وتبليغ وتنفيذ : هما حق رسوله - صلى الله عليه وسلم - في عهده ، وورثته من بعده .

( 4 ) قوله تعالى : ( قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره ) ( 9 : 24 ) فجعل كمال الإيمان مشروطا بتفضيل حب الله تعالى ورسوله على كل ما يحب في هذا العالم من الناس والمصالح والمنافع ، ولكنه جعل الجهاد في سبيل الله لأنه عبادة يتقرب بها إلى الله وحده وليس للرسول - صلى الله عليه وسلم - أدنى حق ولا شركة مع الله عز وجل في عبادته .

( 5 ) قوله تعالى في صفات أهل الكتاب الذين شرع قتالهم من الآية ( ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ) ( 9 : 29 ) على القول بأن ( ( رسوله ) ) في الآية هو الفرد الأكمل خاتم النبيين وهو قول للمفسرين يقابله أن المراد به رسوله تعالى إليهم وهو موسى عليه السلام لليهود وعيسى عليه السلام للنصارى .

وهل العطف في الآية يدل على أن الرسول قد أعطاه الله حق التحريم من تلقاء نفسه أم حظه منه التبليغ عن الله تعالى نصا ولو في غير القرآن أو استنباطا ؟ اختلف علماؤنا في التشريع الدنيوي في هذه المسألة دون الديني المحض فذهب بعضهم إلى الأول وجعلوا منه تحريمه - صلى الله عليه وسلم - للمدينة كمكة أن يصاد صيدها أو يختلى خلاها إلخ ، وذهب آخرون إلى الثاني ومنهم الإمام الشافعي ، وقد بينا هذه المسألة في موضع آخر بالتفصيل .

( 6 ) قوله تعالى في سبب منع المنافقين أن تقبل منهم نفقاتهم من الآية ( أنهم كفروا بالله وبرسوله ) ( 9 : 54 ) ومثله في سبب عدم انتفاعهم باستغفار النبي - صلى الله عليه وسلم - من الآية ( ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله ) ( 9 : 80 ) وهذا ظاهر فإن الدين إنما يكون بالجمع بين الإيمان بالله والإيمان برسوله وما جاء به ، وأنى يعرف الله وما يرضيه من عبادته إلا من طريق رسله وما أوحاه إليهم ؟

( 7 ) قوله تعالى في الذين لمزوا النبي - صلى الله عليه وسلم - : أي عابوه في قسمة الصدقات وكانوا يرضون إذا أعطوا ويسخطون إذا منعوا : ( ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون ) ( 9 : 59 ) والجمع فيها بين اسم الله واسم رسوله في موضعين : أحدهما : الرضاء بما آتيا وأعطيا بالفعل والثاني الرجاء فيما يؤتيان من بعد ، فأما العطاء من الله تعالى فهو أنه هو الذي أنعم وينعم بالغنائم في الحرب وهو الذي شرع قسمتها بين الغانمين ، وجعل خمسها فيما تقدم في أول الجزء العاشر في مصالح المسلمين ، ومنها مواساة الفقراء والمساكين ، وهو المنعم بسائر الأموال ، والذي فرض [ ص: 86 ] فيها ما تقدم تفصيله من الصدقات ، وأما الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهو القاسم للغنائم والصدقات بإعطائها لمستحقيها بالحق والعدل ، ولذلك خص الله تعالى في الآية بالفضل . وفيها من أصول التوحيد ، والتمييز بين ما لله وحده وما له وللرسول أمران : ( أحدهما ) أن المحسب الكافي للعباد هو الله وحده ، ولهذا أرشدهم أن يقولوا : ( حسبنا الله ) ولم يقل ورسوله كما قال في الإيتاء ، و ( ثانيهما ) أن توجه المؤمن فيما يرغبه ويرجوه من الرزق وغيره يجب أن ينتهي إلى الله تعالى وحده وهو نص قوله : ( إنا إلى الله راغبون ) ( 9 : 59 ) ومنه ( وإلى ربك فارغب ) ( 94 : 8 ) أي دون غيره ( راجع ص 241 وما بعدها ج 10 ط الهيئة ) .

( 8 ) قوله تعالى ( يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين ) ( 9 : 62 ) فمقتضى الإيمان الذي لا يصح بدونه - تحري المؤمن إرضاء الله ورسوله في المرتبة الأولى وإرضاء المؤمنين بما يتعلق بمعاملاتهم في المرتبة الثانية التابعة الأولى ; ذلك بأن كل ما يرضي رسوله - صلى الله عليه وسلم - يرضيه ، فهما متلازمان ، وأما المؤمنون فقد يرضي بعضهم ما لا يرضي الله ورسوله لجهله بما يرضيهما أو غفلته عنه أو اتباعه لهواه فيه . ومنه في موضوع الآية في أن بعض المؤمنين من الصحابة الكرام ربما كانوا يصدقون أولئك المنافقين الذين يحلفون لهم بأنهم صادقون في اعتذارهم عما اتهموا به في غزوة تبوك ; لأنهم لا يعلمون ما يعلمه الله تعالى من باطن أمرهم وما أعلم به رسوله منه ، ولذلك قال في آية أخرى : ( يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين ) ( 9 : 96 ) .

( 9 ) قوله ( تعالى ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم ) ( 9 : 63 ) الآية هذه مقابلة لما قبلها فإن من يحادد الله أي يعاديه يعادي رسوله كما أن من يرضي أحدهما يرضي الآخر ، ومن ثم كان الجزاء واحدا .

( 10 ) قوله تعالى في المنافقين الذين كانوا يخوضون في مسألة غزوة تبوك ويهزءون بمحاولة غزو الروم ورجاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - النصر عليهم وبما كان وعد به أصحابه من الظفر بملكهم ( ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون ) ( 9 : 65 ) فحكم الاستهزاء بالله وآياته الكفر ، وهو حكم الاستهزاء برسوله ; لأن الله تعالى هو الذي وعد رسوله بالنصر وأمره بالغزو ، ورسوله إنما بلغ عنه آياته ووعده في ذلك .

( 11 ) قوله تعالى : ( وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم وقعد الذين كذبوا الله ورسوله ) ( 9 : 90 ) الآية . معنى كذبهم إياهما إظهار الإيمان بهما كذبا وخداعا ومن [ ص: 87 ] كذب الرسول في دعوى الإيمان فقد كذب الله - وإن لم يشعر بذلك - واستحق الجزاء الذي في الآية .

( 12 ) قوله تعالى في أصحاب الأعذار الصادقة في التخلف عن الجهاد الواجب ( ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ) ( 9 : 19 ) فاشترط لقبول عذرهم في القعود عن القتال النصح لله ورسوله في كل قول وعمل يقدرون عليهما في مقاومة الأعداء ومساعدة المؤمنين وغير ذلك ، فالنصح من أعظم شعب الإيمان ، وراجع تفسير الآية .

( 13 ) قوله تعالى في المعتذرين من المنافقين عن الخروج إلى تبوك ( يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبأنا الله من أخباركم وسيرى الله عملكم ورسوله ) ( 9 : 94 ) الآية . والمراد من ذكر رؤية الرسول لها إعلامهم أنه هو الذي سيعاملهم بمقتضاها في الدنيا ، دون أقوالهم في الاعتذار عن تخلفهم وغيره من سيئاتهم . وأما رؤية الله تعالى لها فهي التي عليها مدار الجزاء في الآخرة كما صرح به في تتمة الآية ( بأول هذا الجزء ) وفي معناها قوله تعالى ( وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ) ( 9 : 105 ) هذه الآية حث على العمل النافع للدنيا والآخرة ، وإنما ذكر المؤمنون هنا بعد ذكر الله ورسوله لتذكير العاملين بأن الله يرى أعمالهم وهو الذي يجازيهم عليها ، فيجب عليهم الإحسان والإخلاص له ، والوقوف عند حدود شرعه فيها . وبأن رسوله يراها ويعاملهم بمقتضاها .

وهذا خاص بحال حياته - صلى الله عليه وسلم - - وهو الشهيد عليهم فيها عند الله تعالى ليتحروا أن يشهد لهم لا عليهم - ثم لتذكيرهم بأن المؤمنين يرونها فينبغي لهم أن يتبعوا فيها سبيلهم ويتحروا فيها ما يوافق المصلحة العامة التي يشتركون فيها ، وجماعة المؤمنين شهداء بعضهم على بعض ، وشهادتهم مقبولة عند الله تعالى ( راجع تفسير الآية في موضعها بأول هذا الجزء )

( 14 ) قوله تعالى ( ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ) ( 9 : 99 ) فهذا ضرب من اقتران اسم الرسول - صلى الله عليه وسلم - باسم الله تعالى في موضوع واحد مع الفصل فيه بين ما له تعالى وما لرسوله . فالذي لله عز وجل من هذه العبادة هو قصد القربة وابتغاء المرضاة والمثوبة ، والذي للرسول - صلى الله عليه وسلم - هو طلب صلواته أي أدعية إذ كان يدعو للمتصدقين كما بيناه في تفسير الآية ( في أول الجزء ) .

وكل هذه الآيات مما يفند دعوى بعض الملاحدة أن دين الإسلام هو القرآن وحده دون سنة رسوله ، وكذلك ما ترى في الفصلين اللذين بعده .

التالي السابق


الخدمات العلمية