صفحة جزء
( الفصل الثاني في أحكام القتال والمعاهدات وهي عشرون حكما )

( الحكم الأول ) البراءة من المشركين ، ونبذ عهود المعاهدين منهم ، ذلك أن مشركي مكة قد ناصبوا النبي - صلى الله عليه وسلم - العداوة منذ دعا إلى التوحيد ، وتبعهم سائر العرب فكانوا حربا له ولمن آمن به يقتلون كل من ظفروا به منهم أو يعذبونه إذا لم يكن له من يحميه من المشركين ، ولما هاجروا من مكة صاروا يقاتلونهم في دار هجرتهم وكان الله ينصر رسوله والمؤمنين عليهم كما وعده ، حتى إذا ما كثروا وصارت لهم شوكة اضطر المشركون إلى عقد أول صلح معهم في الحديبية فعاهدوهم سنة ست للهجرة على السلم والأمان مدة عشر سنين ، ولم تلبث قريش مع أحلافها من بني بكر أن غدروا ونقضوا العهد ، فكان ذلك سببا لفتح النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة سنة ثمان ، ثم جمع المشركون جموعهم لقتاله في حنين والطائف فنصره الله عليهم ، وأمره في السنة التالية بأن ينبذ للمشركين عهودهم ويتبرأ منهم في موسم الحج ( 137 ج 10 ط الهيئة ) .

[ ص: 101 ] ( الثاني ) أذان المشركين ( إعلامهم ) بذلك أذانا عاما في يوم الحج الأكبر ، وهو عيد النحر الذي تجتمع به وفود الحاج من جميع القبائل في منى بحيث يعم هذا البلاغ جميع قبائل العرب في أقرب وقت ، لأن الإسلام يحرم الغدر وأخذ المعاهدين على غرة ، فكان لا بد من إعلامهم بذلك بما ينتشر في جميع قبائلهم ، وكانت تلك الوسيلة الوحيدة لعلم كل فرد منهم بعود حالة الحرب بينهم وبين المسلمين ، وهذا من عدل الإسلام ورحمته ، لأن المشركين لم تكن لهم دولة ولا رئيس عام يبلغهم ما يتعلق بشئونهم ومصالحهم العامة فيكتفى بإبلاغه مثل هذا كما هو المعهود في الدول الملكية أو الجمهورية المدنية ، ولم يكن في عصرهم صحف منشرة عامة ولا آلات للأخبار البرقية تنشر مثل هذا البلاغ .

( الثالث ) منحهم هدنة أربعة أشهر يسيحون في الأرض حيث شاءوا آمنين مطمئنين أحرارا في سيرهم وإقامتهم وسائر أعمالهم الدينية والدنيوية ليترووا في أمرهم ، ويتشاوروا في عاقبتهم . وفي هذا من رحمة القادر بعدوه ما يفتخر به المسلمون بحق . وهذه الأحكام صريحة في الآيات الثلاث الأولى من السورة ( ص 133 وما بعدها ج 10 ط الهيئة ) .

( الرابع ) وعظهم بأنهم إن تابوا من شركهم وما يغريهم به من عداوة المؤمنين وقتالهم والغدر بهم فهو خير لهم ، لأنهم لم يعجزوا الله في الأرض ولن يعجزوه هربا منها ، وقد وعد بنصر رسوله عليهم من قبل أن يكثر أتباعه ويبايعه أنصاره ، وأنجز له وعده في جملة غزواته معهم ، وسبب هذا الوعظ أن الإيمان أمر اختياري طريقه الموصل إليه الدعوة ودلائل الإقناع ، وذلك قوله في بقية الآية الثالثة ( فإن تبتم فهو خير لكم ) إلخ . وفيها من الإخبار عن المستقبل ما صدقه الواقع .

( الخامس ) استثناء بعض المشركين من نبذ عهدهم ، وهم الذين عاهدهم المؤمنون عند المسجد الحرام في الحديبية سنة ست ولم ينقصوهم من شروط العهد ومواده شيئا ، ولم يظاهروا ويعاونوا عليهم أحدا من أعدائهم المشركين ولا أهل الكتاب ، كما نقض أهل مكة العهد ، بمظاهرة أحلافهم بني بكر على أحلاف النبي - صلى الله عليه وسلم - بني خزاعة . والأمر بإتمام عهدهم إلى نهاية مدته ، وتعليله بأنه من التقوى التي يحبها الله تعالى ، وهذا نص الآية الرابعة بشرط أن يظلوا مستقيمين عليه كما بينه في الآية السابعة .

( السادس ) الأمر في الآية الثامنة باستعمال جميع أسباب القتال معهم بعد انسلاخ أشهر الهدنة التي ضربت له وحرم فيها ، وهي القتل والأسر والحصر والقعود لهم في جميع المراصد لمراقبتهم ومنعهم من التجوال والتغلب في البلاد ، وهو يدل على شرعية استعمال ما يتجدد بين البشر من وسائل القتال الموافقة لأصول الإسلام العادلة ، فإن استعمل العدو [ ص: 102 ] ما هو مخالف لها قابلناه لعموم قوله تعالى : ( فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله ) ( 2 : 194 ) .

( السابع ) تخلية سبيل من يتوبون من الشرك بالنطق بالشهادتين ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ، لأنهم بهذا يدخلون في الإسلام ، ومن قبل الصلاة والزكاة والتزمهما فلا بد أن يلتزم غيرهما . وهذا نص الآية الخامسة .

( الثامن ) إيجاب إجارة من يستجير النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم ، وفي حكمه الإمام الأعظم ونائبه والقائد العام في حال الحرب ؛ لأجل أن يسمع كلام الله ويقف على دعوة الإسلام ، وإبلاغه بعد ذلك المكان الذي يأمن فيه على نفسه من سلطان المسلمين .

( التاسع ) تعليل نبذ عهد المشركين السابق وعدم استئنافه معهم بالأسباب الآتية :

( أ ) أنهم نقضوا عهد الحديبية بالغدر فلم يخبروا المؤمنين ذلك ليأخذوا أهبتهم .

( ب ) أن من دأبهم وشأنهم أنهم إذا ظهروا على المؤمنين برجحان قوتهم لا يرقبون فيهم عهدا ولا ذمة ولا قرابة ، بل يفتكون بهم بدون رحمة .

( ج ) أنهم ينافقون ويكذبون عليهم في حال الضعف فيرضونهم بأفواههم ، ويقولون بألسنتهم لهم ما ليس في قلوبهم ، وأكثرهم أي السواد الأعظم منهم فاسقون أي خارجون عن قيود العهود والمواثيق والصدق والوفاء .

( د ) أنهم يصدون عن سبيل الله ويعادون الإسلام وأهله لأجل منفعة قليلة يتمتعون بها ، ويخافون أن تسلب منهم بالتزام شريعته التي تحرم أكل أموال الناس بالباطل كالربا والقمار والغصب والغزو لأجل الكسب ، وكانوا يستبيحون كل ذلك .

( هـ ) أنهم - على كونهم لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة في حال القوة ولا في حال الضعف - هم المعتدون على المسلمين بالقتال ، فلا يمكن أن يظلوا معهم كذلك في كل حال .

( و ) أنهم نكثوا عهودهم السابقة ، فكذلك غيرها فلا ثقة بها فتراعى .

( ز ) أنهم هموا بإخراج الرسول من وطنه ، بل هم الذين اضطروه إلى الخروج هو وسائر من آمن معه ، وذلك بعد أن تواطئوا على قتله .

( ح ) أنهم هم الذين بدءوا المؤمنين بالقتال أول مرة ، وبقيت الحرب مستمرة ، فلما أنهت معاهدة الحديبية حالة القتال أعادوها بغدرهم فيها ونقضهم لها ، وهذه الأسباب الثمانية صريحة في الآيات ( 7 - 10 ) .

[ ص: 103 ] ( الحكم العاشر ) وجوب قتال مشركي العرب كافة إلا أن يسلموا ، وهو نص الآية الخامسة المعروفة بآية السيف ، وقوله في الآية : ( وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة ) ( 9 : 36 ) وجهه ما علم من جملة الآيات في قتال مشركي العرب ، وهو عدم قبول الجزية منهم وعدم إقرارهم على السكنى والمجاورة للمسلمين في بلادهم مع بقائهم على شركهم ، لأنهم لا أمان لهم ولا عهود فيمكن أن يعيش المؤمنون معهم بسلام .

( الحكم 11 ) تحريم ولاية الكفار من الآباء والإخوان كغيرهم على المؤمنين ، وكونها من الظلم في الآية ( 23 ) .

( الحكم 12 ) حكم قتال أهل الكتاب بشرطه حتى يعطوا الجزية في الآية ( 29 ) .

ومن فروع هذه المسألة الفرق في القتال بين مشركي العرب وسائر الوثنيين . ومنها أن ما في هذه السورة من قتالهم وقتال أهل الكتاب إنما هو في بيان غايته لا في بدايته ، وأن أول ما نزل من التشريع في القتال آيات سورة الحج ( 22 : 39 - 41 ) ثم آيات سورة البقرة التي أولها ( 2 : 190 ) ( راجع آخر ص 247 وما بعدها وص 255 ج 10 ) ويليها آيات سورة الأنفال ، فسورة آل عمران ، فسورة محمد ، فهذه السورة .

( الحكم 13 ) وصف أهل الكتاب الذين بين حكم قتالهم هنا بأربع صفات سلبية هي علة عداوتهم للإسلام ، ووجوب خضوعهم لحكمه ليأمن أهله على أنفسهم ، وحرية دينهم معهم ( فيراجع تفسير آية الجزية في ص 248 وما بعدها ج 10 ط الهيئة ) .

( فصل ) في حقيقة الجزية لغة وشرعا وتاريخها وشروطها وأحكامها وسيرة الصحابة فيها ( ص 256 - 269 ) ج 10 ط الهيئة ) .

( استطراد ) في حقيقة معنى الجهاد والحرب والغزو وإصلاح الإسلام فيه ص 269 - 274 ج 10 ط الهيئة ) .

( فصل ) في دار الإسلام والعدل . ودار الحرب والبغي ، وحقوق الأديان والأقوام في هذا العصر ( ص 274 - 281 ج 10 ط الهيئة ) .

( الحكم 14 ) إبطال النسيء في الأشهر لأجل القتال ، وكونه تشريعا جاهليا ، وهو نص الآية ( 37 ) .

( الحكم 15 ) النفير العام ، وهو ما يكون القتال به واجبا بشرطه على الأعيان كما فصل في الآيات ( 38 و 39 و 41 ) وأما النفير الخاص فهو في الآية ( 122 ) .

( الحكم 16 ) الاستئذان في التخلف عن الجهاد بالمال والنفس من علامات النفاق ، [ ص: 104 ] ومنافيات الإيمان بالله واليوم الآخر كما ترى في الآيتين ( 44 و 45 ) وما قبلهما وبعدهما من أحوال المنافقين ، وتتمة ذلك في الآيات ( 86 - 93 ) .

( الحكم الأول ) وجوب مجاهدة الكفار والمنافقين في المعاملات المدنية والأدبية وهم الخاضعون لأحكام الإسلام كما في الآية ( 73 ) .

( الحكم 18 ) الأعذار المبيحة للتخلف عن الجهاد في قوله تعالى : ( ليس على الضعفاء ولا على المرضى ) 9 : 91 إلى آخر الآية ( 93 ) .

( الحكم 19 ) وجوب بذل الأنفس والأموال في القتال المشروع لإعلاء كلمة الله ، وهي الحق والعدل باشتراء الله إياهما من المؤمنين بأن لهم الجنة ، وهو نص الآية ( 111 ) وتقدم تحريم الفرار من الزحف في سورة الأنفال .

( الحكم 20 ) قتال الأقرب فالأقرب من الكفار الحربيين وهو نص الآية ( 123 ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية