ما يرد على نبوتهم من تعريفها : 
أما 
تفسير الإلهام بحلول روح الله في روح الملهم فهو تحكم 
للنصارى  لا يعرفه ولا يعترف به أنبياء 
بني إسرائيل  ولا علماؤهم . ولا يمكنهم إثباته ولا دفع ما يرد عليه من وقوع التعارض والتناقض والخلف فيما كتبه أولئك الملهمون وما خالفوا فيه الواقع ، وقد أشار إلى ذلك بقوله : إن فى شرح ذلك التعليم دقة وإن العلماء اختلفوا في شرحه إلخ ، ومن حل فيه روح الله صار إلها ; إذا 
المسيح  لم يكن إلها عند 
النصارى  إلا بهذا الحلول ، فكيف يقع في مثل ما ذكر ويتخلف وحيه أو يخالف الواقع ؟ 
وأما كلامه في النبوة فيؤخذ منه ما يأتي : 
( 1 ) إن أكثر أنبياء 
بني إسرائيل  كانوا يتخرجون في مدارس خاصة بهم يتعلمون فيها تفسير شريعتهم التوراة والموسيقى والشعر ، وأنهم كانوا شعراء ومغنين وعزافين على آلات الطرب ، وبارعين في كل ما يؤثر في الأنفس ويحرك الشعور والوجدان ، ويثير رواكد الخيال ، فلا غرو أن يكون عزرا ونحميا من أعظم أنبيائهم ساقيين من سقاة الخمر لملك 
بابل    ( 
أرتحششتا    ) ومغنيين له ، وأن يكونا قد استعانا بتأثير غنائهما في نفسه على سماحه لهما بالعودة بقومهما إلى وطنهما وإقامة دينهما فيه . 
فالنبوة على هذا كانت صناعة تعلم موادها في المدارس ويستعان على الإقناع بها بالتخييلات الشعرية والإلهامات الكلامية ، والمؤثرات الغنائية والموسيقية . والمعلومات المكتسبة فأين هي من نبوة 
محمد  الأمي الذي لم يتعلم شيئا ولم يقل شعرا ، وقد جاء بأعظم مما جاءوا به كلهم ؟ 
( 2 ) إن كثيرا من هؤلاء وأولادهم كانوا متنسكين أو طوافين على الناس يعيشون ضيوفا عند الأتقياء المحبين لرجال الدين كما هو من دراويش المتصوفة أهل   
[ ص: 124 ] الطرق في المسلمين ، ومن المعلوم أن هؤلاء هم الذين يقبلون من رجال التنسك كل ما يقولون ، ويسلمون لهم ما يدعون ، ويذيعون عنهم كل ما يقبلون منهم ، ومن غير هؤلاء الكثيرين من الأنبياء من نقلت عنهم كتبهم المقدسة بعض كبائر المعاصي ، وإن من أخبار الصوفية والنساك والسياح عند المسلمين من تفضل سيرتهم سيرة هؤلاء الأنبياء في كتبهم ، فكيف يصح أن يرتفع أحد منهم إلى درجة 
محمد    - صلى الله عليه وسلم - في نشأته الفطرية ومعيشته من كسبه ، وكونه لم يكن عالة على الناس في شيء قبل النبوة ولا بعدها . 
( 3 ) أشهر أنواع نبوتهم الأحلام والرؤى المنامية والتخيلات المبهمة وكلها تقع لغيرهم ، وقد كانت الرؤيا الصادقة مبدأ نبوة 
محمد    - صلى الله عليه وسلم - قبل وحي التشريع الذي كان له صور أعلى منها سنبينها بعد . والرؤى : صور حسية في الخيال تذهب الآراء والأفكار في تعبيرها مذاهب شتى قلما يعرف تأويل الصادق منها غير الأنبياء كرؤيا ملك 
مصر  التي عبرها 
يوسف  عليه السلام ، ورؤياه هو في صغره . 
( 4 ) إن نبوة الإخبار عن الأمور المستقبلة وهي التي يستدلون بها على كونهم مخبرين عن الله تعالى كانت أحيانا كثيرة بدون تمييز أزمنتها ولا حوادثها : فكان بعضها يختلط ببعض فلا يكاد يظهر المراد منها إلا بعد حملها على شيء واضح بعد وقوعه كما يعهد في كل عصر من أخبار العرافين والمنجمين ، بله الروحانيين المكاشفين ، ومنها ما ظهر خلافه كما أشار إليه ولم يشرحه ولكن التاريخ شرحه . وكان أعظم نبوات هؤلاء الأنبياء إخبارهم عن 
المسيح    ( مسيا ) وملك إسرائيل ثم إخبار 
المسيح  نفسه عن خراب العالم ومجيء الملكوت لأجل دينونية العالم ، وأنه لا ينقضي الجيل الذي خاطبه حتى يكون ذلك كله . وقد مر أجيال كثيرة ولم يكن من ذلك شيء .