( فعل القرآن في أنفس العرب المستعدة له نوعان ) 
بيان ذلك أن 
فعل القرآن في أنفس العرب وإحداثه تلك الثورة الكبرى فيهم قد كان على نوعين : أولهما جذبه الناس إلى الإسلام ، وثانيهما تزكيتهم وتغيير كل ما بأنفسهم من جهل وفساد إلى ضده ، حتى أعقب ما أعقب من الإصلاح في العالم كله . وهاك التفصيل الذي يحتمله المقام لذلك . 
بينا مرارا أن الله تعالى قد أعد الأمة العربية ولا سيما 
قريش  ومن حولها لما أراده   
[ ص: 167 ] من الإصلاح العام للبشر بكونهم كانوا أقرب الأمم إلى سلامة الفطرة ، وأرقاهم لغة وأقواهم استقلالا في العقل والإرادة ; لعدم وجود ملوك مستبدين ورؤساء دين أولي سلطان روحي يتحكمون في عقائدهم وأفكارهم ويسخرونهم لشهواتهم . 
فلما بعث فيهم 
محمد    - صلى الله عليه وسلم - بهذا القرآن الداعي إلى الحق وإلى صراط مستقيم كانوا على أتم الاستعداد الفطري لقبول دعوته ، ولكن رؤساء 
قريش  كانوا على مقربة من ملوك شعوب العجم في التمتع بالثروة الواسعة والعظمة الكاذبة والشهوات الفاتنة والسرف في الترف ، وعلى حظ مما كان عليه رؤساء الأديان فيها من المكانة الدينية بسدانتهم 
لبيت الله الحرام  الذي أودع الله تعظيمه في القلوب من عهد 
إبراهيم  وإسماعيل    - فرأوا أن هذا الدين يسلبهم الانفراد بهذه العظمة الموروثة ، وقد يفضل عليهم بعض الفقراء والموالي ، وأنه يحكم عليهم وعلى من يفاخرون بهم من آبائهم بالكفر والجهل والظلم والفسوق ويشبههم بسائمة الأنعام - فوجهوا كل قواهم ونفوذهم إلى صد 
محمد  عن دعوته ولو بتمليكه عليهم ، وجعله أغنى رجل فيهم ، ولكن تعذر إقناعه بالرجوع عنها بالترغيب ، حتى التمويل والتمليك ، فقد أجاب عمه 
أبا طالب  لما عرض عليه ما أرادوه من ذلك بتلك الكلمة العليا : ( ( 
يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني ، والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته   ) ) حينئذ أجمعوا أمرهم على صده عن تبليغها بالقوة ، والحيلولة بينه وبين جماهير الناس في الأسواق والمجامع 
والبيت الحرام  ، وبصد الناس عنه أن يأتوه ويستمعوا له ، وباضطهاد من اتبعه بالدعوة الفردية ، إلا أن يكون له من يحميه منهم لقرابة أو جوار أو ذمة ، فهؤلاء الرؤساء المترفون المسرفون المتكبرون كانوا أعلم الناس بصدق 
محمد  وفيهم نزل قوله تعالى : ( 
فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون   ) ( 6 : 33 ) فقد كابروا الحق بغيا واستكبارا للحرص على رياستهم وشهواتهم ، وكانوا أجدر العرب بقبول دعوة القرآن : ( 
وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا   ) ( 27 : 14 ) 
كفرعون  وقارون  وهارون    .