صفحة جزء
( الركن الأول للدين الإيمان بالله تعالى )

فالركن الأول الأعظم من هذه الأركان - وهو الإيمان بالله تعالى - قد ضل فيه جميع الأقوام والأمم حتى أقربهم عهدا بهداية الرسل ، فاليهود جعلوا الله كالإنسان يتعب ويندم على ما فعل كخلقه للإنسان لأنه لم يكن يعلم أنه سيكون مثله . ( ( أو مثل الآلهة ) ) وزعموا أنه كان يظهر في شكل الإنسان حتى إنه صارع إسرائيل ولم يقدر على التفلت منه حتى باركه فأطلقه ! وعبدوا بعلا وغيره من الأصنام ، والنصارى جددوا من عهد قسطنطين الوثنيات القديمة ، فغمر الشرك بالله هذه الأرض بطوفانه وطغت الوثنية على أهلها ، حتى صارت كنائس النصارى كهياكل الوثنية الأولى مملوءة بالصور والتماثيل المعبودة - على أن عقيدة التثليث والصلب والفداء هي عقيدة الهنود في كرشنة وثالوثه في جملتها وتفصيلها ، وهي مدعومة بفلسفة خيالية غير معقولة ، وبنظام يقوم بتنفيذه الملوك والقياصرة ، ويبذل في سبيله القناطير المقنطرة من الذهب والفضة ، ويربى عليه الأحداث من الصغر تربية وجدانية خيالية لا تقبل حجة [ ص: 172 ] ولا برهانا ، فهدم معاقل هذه الوثنية وحصونها المشيدة في الأفكار والقلوب ما كان ليتم بإقامة برهان عقلي أو عدة براهين على توحيد الله عز وجل ، بل فيه من دحض الشبهات وتفصيل الحجج العقلية والعلمية والخطابية بالعبارات المختلفة وضرب الأمثال ; لذلك كان أكبر المسائل تكرارا في القرآن مسألة توحيد الله عز وجل في ألوهيته بعبادته وحده ، واعتقاد أن كل ما سواه من الموجودات سواء في كونهم ملكا وعبيدا له لا يملكون من دونه نفعا ولا ضرا لأحد ولا لأنفسهم إلا فيما سخره من الأسباب المشتركة بين الخلق كما شرحناه مرارا .

وأما تكرار توحيد الربوبية وهو انفراده تعالى بالخلق والتقدير والتدبير والتشريع الديني فليس سببه كثرة المشركين بربوبيته تعالى ، بل سببه إقامة الحجة به على بطلان شرك العبادة بدعاء غير الله تعالى لأجل التقرب إليه بأولئك الأولياء وابتغاء شفاعتهم عنده ، فشر الشرك وأعرقه في الكفر وأكثره في ضعفاء العقول إنما هو توجه العبد إلى غير الله تعالى فيما يشعر بالحاجة إليه من كشف ضر وجلب نفع من غير طريق الأسباب ، فقد ذكر الدعاء في القرآن أكثر من سبعين مرة ، بل زهاء سبعين بعد سبعين مرة ; لأنه روح العبادة ومحنها ، بل هو العبادة التي هي دين الفطرة كله ، وما عداه من العبادات فوضعي تشريعي .

بعض آيات الدعاء أمر بدعائه تعالى ، وبعضها نهي عن دعاء غيره مطلقا ، ومنها حجج على بطلان الشرك أو على إثبات التوحيد ، ومنها أمثال ، تصور كلا منهما بالصور اللائقة المؤثرة ، ومنها إخبار بأن دعاء غيره لا ينفع ولا يستجاب ، وأن كل من يدعى من دونه تعالى فهو عبد له وأن أفضلهم وخيارهم كالملائكة والأنبياء يدعونه هو ويبتغون الوسيلة إليه ، ويرجون رحمته ويخافون عذابه ، وأنهم يوم القيامة يكفرون بشرك الذين يدعونهم من دون الله أو مع الله - وأمثال ذلك مما يطول تلخيصه .

وثم أنواع أخرى من آيات الإيمان بالله تعالى تغذي التوحيد ، وتصعد بأهله درجات متفاوتة في السمو بمعرفته تعالى والتأله والتوله في حبه من التنزيه والتقديس والتسبيح ، وذكر أسمائه الحسنى ممزوجة ببيان الأحكام الشرعية المختلفة ، حتى أحكام الطهارة والنساء والإرث والأموال . وبحكم الخلق والتدبير لأمور العالم ، وسننه في طباع البشر وفي شئونهم الاجتماعية ووضع كل اسم منها في الموضع المناسب له من رحمة وعلم وحكمة وقدرة ومشيئة وحلم وعفو ومغفرة وحب ورضا وما يقابل ذلك ، ومن الأمر بالتوكل عليه والخوف منه والرجاء في فضله إلخ وناهيك بما سرد منها سردا لجذب الأرواح العالية إلى كماله المطلق وفنائها فيه كما تراه في خاتمة سورة الحشر فتأملها ، وفي فاتحة سورة الحديد : ( سبح لله ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم ) ( 1 ) ( هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم ) ( 3 ) [ ص: 173 ] ومنها استمد الأولياء العارفون والأئمة الربانيون تلك الكتب العالية في معرفته تعالى وأسرار خلقه ، بعد أن تربوا بكثرة ذكره ، وتلاوة كتابه .

بهذا التكرار الذي جعله أسلوب القرآن المعجز مقبولا غير مملول طهر الله عقول العرب وقلوبهم من رجس الشرك وخرافات الوثنية ، وزكاها بالأخلاق العالية والفضائل السامية وكذا غير العرب من آمن وأتقن لغة كتابه وصار يرتله في عبادته ويتدبر آياته ، حتى إذا دب في الأمة دبيب الجهل بلغة القرآن وقل تدبره ، واعتمد المسلمون في فهم عقيدتهم على الكتب الكلامية المصنفة ، ضعف التوحيد وابتغوا سنن من قبلهم شبرا بشبر وذراعا بذراع اعتقادا وعملا ، وتأولا وجدلا فصار أدعياء العلم يتأولون تلك الآيات الكثيرة على التوحيد بشبهاتهم وأهوائهم كما هو مشاهد ومعلوم .

على أن بعض المتكلمين والصوفية قد بالغوا في التوحيد حتى أنكر بعضهم تأثير الأسباب في مسبباتها ، وقال بعضهم بوحدة الوجود ، وانتهى بهم ذلك إلى بدعة الجبر التي أفسدت على أهلها كل شيء ، بيد أن الأولين منهم كانوا يقولون بما يهديهم إليه النظر العقلي ، أو رياضة النفس وما تثمره من الشعور الوجداني ، ثم خلف من بعدهم خلف من المقلدين لا حظ لهم من القرآن ولا من البرهان ولا من الوجدان ، وإنما يتبعون العوام ويتأولون لهم بكلام أمثالهم من المصنفين الجاهلين ولو فقهوا أقصر سورة في التوحيد والتنزيه كما يجب - وهي سورة الإخلاص - لما وجد الشرك إلى أنفسهم سبيلا .

قد كان توحيد المسلمين الأولين لله ومعرفتهم به وحبهم له وتوكلهم عليه هو الذي زكى أنفسهم ، وأعلى هممهم ، وكملهم بعزة النفس وشدة البأس ، وإقامة الحق والعدل ، ومكنهم من فتح البلاد وسياسة الأمم ، وإعتاقها من رق الكهنة والأحبار والرهبان والبوذات والموبذانات الروحي والعقلي ، وتحريرهم من ظلم الملوك واستبدادهم ، وإقامة دعائم الحضارة ، وإحياء العلوم والفنون الميتة وترقيتها فيهم وقد تم لهم من كل ذلك ما لم يقع مثله ولا ما يقاربه لأمة من أمم الأرض ، حتى قال الدكتور غوستاف لوبون المؤرخ الاجتماعي الشهير : إن ملكة الفنون لم يتم تكوينها لأمة من الأمم الناهضة إلا في ثلاثة أجيال ، أولها جيل التقليد ، وثانيها جيل الخضرمة وثالثها جيل الاستقلال والاجتهاد - قال : إلا العرب وحدهم فقد استحكمت لهم ملكة الفنون في الجيل الأول الذي بدءوا فيه بمزاولتها .

وأقول : إن سبب ذلك تربية القرآن لهم على استقلال العقل والفكر واحتقار التقليد . وتوطين أنفسهم على إمامة البشر وقيادتها في أمور الدين والدنيا معا ، وقد خفي كل هذا على سلائلها بعد ذهاب الخلافة الإسلامية وزوال النهضة العربية ، وتحول السلطان إلى الأعاجم الذين لم يكن لهم من الإسلام إلا الظواهر التقليدية المنفصلة عن هداية القرآن .

التالي السابق


الخدمات العلمية