صفحة جزء
المقصد الثاني من مقاصد القرآن

( بيان ما جهل البشر من أمر النبوة والرسالة ووظائف الرسل )

كانت العرب تنكر الوحي والرسالة إلا أفرادا من بقايا الحنفاء في الحجاز وغيره ، ومن دخل في اليهودية والنصرانية لمجاورته لأهلهما وقليل ما هم . وكانت شبهة مشركي العرب وغيرهم على الوحي استبعاد اختصاص الله تعالى بعض البشر بهذا التفضيل على سائرهم ، وهم متساوون في الصفات البشرية بزعمهم ، ويقرب منهم اليهود الذين أنكروا أن يختص تعالى بهذه الرحمة والمنة من يشاء من عباده ، وأوجبوا عليه أن يحصر النبوة في شعب إسرائيل وحده ، كأن بقية البشر ليسوا من عباده الذين يستحقون من رحمته وفضله ما أعطاه لليهود من هداية النبوة . على أنهم وصفوا الأنبياء بالكذب والخداع والاحتيال على الله ومصارعته وارتكاب كبائر المعاصي كما تقدم في القسم الأول من هذا البحث ، ووافقهم النصارى على حصر النبوة فيهم ، وأثبتوا قداسة غير الأنبياء من رسل المسيح وغيرهم وعبدوهم أيضا ، على أنهم نقلوا عن بعض خواص تلاميذه إنكاره إياه في وقت الشدة ، وعن بعضهم أنه أسلمه لأعدائه ، وأنه قال لهم : ( ( كلكم تشكون في في هذه الليلة ، واتخذ كل من الفريقين أحبارهم ورهبانهم وقسوسهم أربابا [ ص: 181 ] من دون الله تعالى ، بأن نحلوهم حق التشريع الديني من وضع العبادات والتحليل والتحريم ، وكل ذلك من الكفر بالله وإنكار عدله ، وعموم رحمته وفضله ومفسدات نوع الإنسان وجعل السواد الأعظم منه مستعبدا لأفراد من أبناء جنسه ، فأبطل الله تعالى كل ذلك بما أنزله من كتابه على خاتم النبيين وأثبت بعثة الرسل والمنذرين لجميع شعوبه بقوله : ( ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة ) ( 16 : 36 ) وقوله : ( إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا وإن من أمة إلا خلا فيها نذير ) ( 35 : 24 ) وكرم الإنسان بجعل التشريع الديني من حقوق الله وحده . وإنما النبيون والرسل مبلغون عنه وليسوا بمسيطرين على الأقوام ، وطاعتهم تابعة لطاعته ، فقد أبطل ما نحلهم الناس من ربوبية التشريع ، كما أبطل عبادتهم وعبادة من دونهم من القديسين ، وبذلك تحرر الإنسان من الرق الروحي والعقلي الذي منيت به الأمم المتدينة ولا سيما النصارى .

ولضلال جميع أهل الملل والنحل في ذلك ، كرر هذا الإصلاح في كثير من السور بالتصريح بأن الرسل بشر مثل سائر البشر يوحى إليهم ، وبأنهم ليسوا إلا مبلغين لدين الله تعالى الموحى إليهم ، قال تعالى لخاتمهم المكمل لدينهم في خاتمة سورة الكهف : ( قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد ) ( 18 : 110 ) الآية . وقال في جملتهم من وسطها : ( وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين ) ( 18 : 56 ) ومثلها في سورة الأنعام ( 6 : 48 ) وفي معناهما آيات أخرى . بعثهم مبشرين ومنذرين بالقول والعمل والتنفيذ ، وبأنهم لا يملكون للناس ولا لأنفسهم نفعا ولا ضرا ، ولا هداية ولا نجاة من العقاب على مخالفة شرع الله وسننه في خلقه في الدنيا ولا في الآخرة . وقد شرحنا ذلك في تفسير قوله تعالى : ( قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون ) ( 7 : 188 ) وسيأتي نظيرها في الآية 49 من هذه السورة التي نفسرها ، وقد بين ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - بأقواله وأعماله وأخلاقه في العبودية والتواضع بما لا يدع لتأويل الآيات سبيلا حتى فطن لذلك بعض علماء الإفرنج الأحرار فقال : إن محمدا لما رأى خزي النصارى بتأليه نبيهم وعبادته ، لم يكتف بتلقيب نفسه برسول الله ، حتى أمرهم بأن يقولوا : ( ( أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ) ) .

وأما مسألة الشفاعة التي كان مشركو العرب يثبتونها لمعبوداتهم في الدنيا ، وأهل الكتاب يثبتونها لأنبيائهم وقديسيهم في الدنيا والآخرة ، فقد نفاها القرآن وأبطلها ، وأثبت أن الشفاعة لله جميعا ، وأنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه ( يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين ) ( 21 : 28 ، 29 ) [ ص: 182 ] وقد فصلنا ذلك في تفسير سورة البقرة وغيره مرارا ( منه أن الشفاعة الثابتة في الأحاديث غير الشفاعة الوثنية المنفية في القرآن ) . وكرر هذه المسألة دون تكرار ما قبلها لأنها فرع لها فالإقناع بها أسهل .

فأنت ترى أن القرآن قد بين حقيقة هذه المسألة التي ضل فيها الملايين من البشر ، فأشركوا بالله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ، فهل كان هذا مما استمده محمد - صلى الله عليه وسلم - من علماء أهل الكتاب فجادوا به عليه وبخلوا به على أقوامهم ؟ أم هو نابع من نفسه ، وهو يقتضي أن ما ينبع منها أعلى من وحي الله لغيره على حسب دعوى أتباع هؤلاء الرسل ؟ كلا إنما هي من وحي الله تعالى له :

التالي السابق


الخدمات العلمية