صفحة جزء
[ ص: 279 ] ( اهتداء بارج إنكليزي بهذه الآية وأمثالها )

ساق الله تعالى نسخة من ترجمة القرآن العظيم باللغة الإنكليزية إلى بارج من ربابين البواخر الكبرى التي تمخر البحار بين إنكلترة والهند ، فرأى فيها ترجمة هذه الآية فراعته بلاغة وصفها لطغيان البحر واصطخابه ، وما تفعله الرياح الموسمية العاتية بالبواخر والبوارج العظيمة في المحيط الهندي في فصل الصيف ، فطفق يتأمل سائر الآيات في وصف البحر ، والسفائن الكبرى فيه التي وجدت في هذا العصر ولم يكن لها نظير في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - كقوله تعالى : ( مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان فبأي آلاء ربكما تكذبان يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان فبأي آلاء ربكما تكذبان وله الجواري المنشآت في البحر كالأعلام ) ( 55 : 19 - 24 ) ورأى أن المترجم الإنكليزي ينقل عن أشهر تفاسير القرآن لبعض علماء المسلمين ، التي ألفت بعد افتتاح العرب للممالك واستيلائهم على البحار وأنهم لم يكونوا يعرفون ما عرفه الإنكليز وغيرهم من بعدهم ، أن اللؤلؤ والمرجان يخرج من البحار الحلوة كما يخرج من البحار المالحة ، فتأولوا قوله تعالى : ( يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان ) بأنه يخرج من مجتمعهما الصادق بأحدهما ؛ لأنه بزعمهم يخرج من البحر الملح فقط ، غافلين عن قوله تعالى : ( ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها ) ( 35 : 12 ) ونبه نظره تشبيه الجواري المنشآت بالأعلام في هذه الآية وفي قوله تعالى : ( ومن آياته الجواري في البحر كالأعلام إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره ) ( 42 : 32 ، 33 ) والعلم الجبل ، وأصلها أعلام الطريق العالية التي تعرف بها المسالك ، أطال الفكر هذا الربان الإنكليزي في هذه الآيات فتعمد أن يعرف بعض المسلمين في بعض ثغور الهند ، فسألهم أتعلمون أن نبيكم محمدا - صلى الله عليه وسلم - سافر في البحار ؟ قالوا : لا إنه لم يرو عنه أنه سافر في البحر قط ، فاعتقد أن ما في القرآن مما ذكر لم يكن إلا بوحي من الله تعالى لهذا النبي العظيم ، وأعظم منه ما فيه من آيات التوحيد والتشريع والتهذيب ، التي هي أكمل وأقرب إلى العقل والفكرة من كل ما في التوراة والإنجيل ، فأسلم عن علم وبصيرة ، وظل زمنا طويلا يتعبد بما يفهمه من ترجمة القرآن ، حتى أتيح له ترك عمله في البحار فأقام في مصر وتعلم العربية وعاشر فضلاء المصريين ، وهو مستر عبد الله براون رحمه الله تعالى ، وأنا قد أدركته وعرفته ، ولا يزال في مصر من يعرفه وقد ضرب الأستاذ الإمام به المثل في صلاته التي كان يصليها في البحر بقدر ما يفهم من القرآن بكل خشوع وتوجه إلى الله تعالى ، في كلام له في روح الصلاة ومغزاها ، وصورتها وأركانها ، قال : قد كانت تلك الصلاة أقرب إلى مرضاة الله تعالى وقبوله من الصلاة الصورية التقليدية ، التي يمثلها من لا يخطر في قلوبهم فيها أنهم متوجهون إلى الله ومناجون له ، مع استشعار عظمته ووحدانيته إلخ .

[ ص: 280 ] قال تعالى في وصف أولئك القوم : ( فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض ) أي إذا هم يفاجئون الناس في الأرض التي يهبطون إليها بالبغي عليهم ، وهو الظلم والعدوان والإفساد ، يمنعون في ذلك ويصرون عليه ، وأصل البغي طلب ما زاد على القصد والاعتدال ، إلى الإفراط المفضي إلى الفساد والاختلال ، من بغى الجرح إذا زاد حتى ترامى إلى الفساد ، ومنه قولهم : بغت السماء ، إذا تجاوزت في المطر الحد المحتاج إليه للزرع والشجر وإمداد الينابيع ، وبغت المرأة إذا تجاوزت في بضعها الحق الخاص بالزوج إلى الفجور ، والأصل فيه أن يكون كما وصفه بغير الحق فتكون الصفة كاشفة للواقع للتذكير بقبحه وسوء حال أهله ، وقد يكون البغي - وهو تجاوز حد الاعتدال - بحق إذا كان عقابا على مثله أو ما هو شر منه ، كما يقع في الحروب وقتال البغاة من اضطرار أهل الحق والمعتدى عليهم ، إلى تجاوز الحدود في أثناء الدفاع عن أنفسهم ، وقد قال تعالى : ( والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون ) إلى قوله : ( إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق ) ( 42 : 39 - 42 ) وقال في بيان أصول الجرائم : ( قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق ) ( 7 : 33 ) إلخ .

( ياأيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم ) هذا التفات عن حكاية المثل إلى مخاطبة البغاة أينما كانوا ، وفي أي زمان وجدوا ، مبدوءا بالنداء الذي يصيح به الواعظ المنذر بالبعيد في مكانه ، أو الغافل الذي يشبه الغائب في حاجته إلى من يصيح به لينبهه ، يقول : يا أيها الضالون عن رشدهم ، الغافلون عن أنفسهم ، حسبكم بغيا على المستضعفين منكم ، وغرورا بكبريائكم وقوتكم ، إنما بغيكم في الحقيقة على أنفسكم ؛ لأن عاقبة وباله عائدة عليكم ، أو لأن من تبغون عليهم من قومكم أو من أبناء جنسكم ، كقوله : ( ولا تقتلوا أنفسكم ) ( 4 : 29 ) المراد به : ولا يقتل بعضكم بعضا ، والشر داعية الشر ، متاع الحياة الدنيا : أي حال كون بغيكم متاع الحياة الدنيا الفانية الزائلة ، فهو ينقضي وعقابيله باقية ، وأقلها توبيخ الوجدان ، وقرأ الجمهور ( ( متاع ) ) بالرفع على أنه خبر لما قبله وفيه وجهان ، أو على تقدير هو متاع الحياة الدنيا ثم إلينا مرجعكم أي ثم إنكم بعد هذا التمتع القليل ترجعون إلينا وحدنا فننبئكم بما كنتم تعملون دائما من الظلم والبغي والتمتع بالباطل مصرين فنجازيكم به .

دلت الآية على أن البغي يجازى أصحابه عليه في الدنيا والآخرة ، فأما في الآخرة فهو ما دل عليه إنذار أهله الرجوع إلى الله ، وإنباؤه إياهم بما كانوا يعملونه ، إذ المراد به لازمه وهو الجزاء به ، وقد تكرر مثله في التنزيل . وأما في الدنيا فهو قوله تعالى : ( إنما بغيكم على أنفسكم ) ويؤيده قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( ( ما من ذنب يعجل الله لصاحبه العقوبة [ ص: 281 ] في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم ) ) رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد والترمذي وابن ماجه والحاكم من حديث أبي بكر - رضي الله عنه - وأخرج ابن عدي وابن النجار من حديث علي - رضي الله عنه - مرفوعا : ( ( احذروا البغي فإنه ليس من عقوبة هي أحضر من عقوبة البغي ) ) ! ! والترمذي وابن ماجه عن عائشة : ( ( أسرع الخير ثوابا البر وصلة الرحم ، وأسرع الشر عقوبة البغي وقطيعة الرحم ) ) وأخرج البخاري في الأدب المفرد عن ابن عباس موقوفا : ( ( لو بغى جبل على جبل لدك الباغي ) ) ورواه ابن مردويه مرفوعا وموقوفا ، والموقوف أصح كما قال ابن أبي حاتم ، وفي الجامع الصغير عن أبي هريرة بزيادة : ( ( لدك الباغي منهما ) ) أخرجه ابن لال بسند ضعيف . وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه وأبو نعيم والخطيب في تاريخه والديلمي في مسند الفردوس عن أنس - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( ( ثلاث هن رواجع على أهلها . المكر والنكث والبغي ) ) ثم تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( ياأيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم ) ( 10 : 23 ) ، ( ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله ) ( 35 : 43 ) ، ( فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ) ( 48 : 10 ) والمراد نكث العهود مع الله أو مع الناس .

وأخرج الحاكم وصححه والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي بكرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( ( لا تبغ ولا تكن باغيا ) ) فإن الله يقول : ( إنما بغيكم على أنفسكم ) وأخرج ابن أبي حاتم مثله عن الزهري .

وأقول : إنه يجب علينا أن نرجع في تحقيق الحق في هذا الموضوع ، إلى سنن الله تعالى في العمران وطبائع الاجتماع البشري التي تثبتها وقائع التاريخ ، فهي التي تفسر لنا أن البغي - وهو من أخص ضروب الظلم للناس - يرجع على فاعله ، ذلك بأنه سبب من أقوى أسباب العداوة والبغضاء بين الأفراد ، وإيقاد نيران الفتن والثورات في الأقوام ، فالفرد الذي يبغي على مثله يخلق له بغيه عدوا أو أعداء ممن يبغي عليهم ، وممن يكرهون البغي وأهله ، فوجود الأعداء والمبغضين ضرب من ضروب العقوبة وإن لم يستطيعوا إيذاء الباغي لعجزهم ، فكيف إذا قدروا وفعلوا وهو الغالب ؟ وأما بغي الملوك والحكام على الأقوام والشعوب فأهون عاقبته عداوتهم والطعن عليهم ، وقد تفضي إلى اغتيال أشخاصهم ، أو إلى ثل عروشهم والقضاء على حكمهم ، إما بثورة من الشعب تستبدل بها عرشا بعرش ، أو نوعا من الحكم بنوع آخر ، وإما بإغارة دولة قوية على الدولة التي يضعفها البغي تسلبها استقلالها ، وتستولي على بلادها ، ولا تنس ما تكرر عليك في هذا التفسير من أن ذنوب الأفراد من بغي وظلم وغيرهما لا يطرد العقاب عليها في الدنيا بخلاف ذنوب الأمم والدول ، فإن عقابها أثر طبيعي لظلمها وفسادها ، وإنما يوفى كل أحد جزاءه في الآخرة .

[ ص: 282 ] ( فإن قيل ) إن الأرض كلها تستغيث ربها من بغي دول أوربة وظلمها ، فما لنا لا نرى بغيها يعود وباله عليها ، وما لنا لا نرى وعيده تعالى للظالمين نازلا بها ، ومديلا للشعوب الشرقية المظلومة منها ومن شعوبها المؤيدة لها ؟ .

( قلنا ) : إن هذا السؤال ما جاء إلا من الغفلة عن الأمر الواقع ، والجهل بسنن الله في العمران ، فإن في بلاد هذه الدول من المصائب والنوائب والجوائح والفقر ما هو أشد مما في بعض بلاد الشرق ، وإنها قد قتلت من رجالها في الحرب الأخيرة العامة ، أضعاف من قتلتهم بغيا وعدوانا من أهل الشرق منذ اعتدت عليهم إلى اليوم ، وإنها قد خربت من عمرانها أكثر مما خربت في الشرق ، وإنها قد خسرت من أموالها في أربع سنين أضعاف ما ربحت من الشرق في مائة سنة ، وإن ما بين شعوبها بعضها لبعض من الأحقاد والأضغان ، وتربص الدوائر للوثبان ، والفتك بالأرواح وتدمير العمران ، لأشد مما في قلوب شعوب الشرق لظالميهم ومستذليهم منهم - فهذا بعض انتقام العدل الإلهي المشاهد .

فأما الجوائح السماوية فلا يعتبرون بها ؛ لأنهم يسندونها إلى أسبابها ما صح منها وما لم يصح ، فمكرهم في آياته أشد من مكر من قبلهم . وأما المصائب الكسبية فيتوخون تخفيفها ، وتلافي شرورها ، بالمفاوضات والمؤتمرات ، وهيهات هيهات .

وأما ما نتمناه من الإدالة لشعوبنا منهم فلا نزال غير أهل له لما هي عليه من الجهل وفساد الأخلاق ، والتقاطع والتخاذل ، وترك كل ما هداها الله إليه في كتابه من أسباب السيادة والاستخلاف في الأرض كما نبهنا إليه آنفا ، وشرحناه في تفسيرنا هذا لآيات كتابه مرارا ، ومن المكابرة للحس أن ننكر أن أكثر ما في بلادنا من عمران فهو من عملهم ، وإن كان جله لمصلحتهم ، وأن من يستخدمون من ملوكنا وأمرائنا وحكامنا هم شر علينا منهم ، بل لم يسودونا ويغلبونا في قطر من أقطارنا ، إلا بمساعدة سادتنا وكبرائنا إياهم علينا ( ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) ( 8 : 53 ) فراجع تفسيره ( في ص 32 - 41 ج 10 ط الهيئة ) . تعلم أننا إذا غيرنا ما بأنفسنا الآن ، بما كان عليه سلفنا من إيمان وأخلاق تتبعها الأعمال ، وأولها الجهاد بالنفس والمال ، فإن كل ما سلب منا يرجع إلينا ، ونزاد عليه بالسيادة على غيرنا ، ولو اتبعوا هم كتابنا كله لأصلحوا الأرض كلها .

ضرب الله هذا المثل هنا للكافرين بنعمه من الباغين في الأرض والظالمين للناس ، فذكر من إخلاصهم في دعائه عند الشدة أنهم يقسمون له لئن أنجاهم منها ، ليكونن من الشاكرين له عليها ، وضربه في أواخر سورة العنكبوت للمشركين في عبادته ، من المؤمنين بربوبيته ، فقال : ( فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون ) ( 29 : 65 ) [ ص: 283 ] وضربه في أواخر سورة لقمان لجميع أصناف الناس فقال : ( ألم تر أن الفلك تجري في البحر بنعمة الله ليريكم من آياته إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور ) ( 31 : 31 و 32 ) الختار الكفور هنا : ضد مقابل : للصبار الشكور فيما قبله ، والختر : الغدر الذي يحمل عليه ضعف الإرادة .

والعبرة في هذه الآيات كلها أنه تعالى أخبر عن المشركين به ، وعن الكافرين بنعمه ، وعن الختارين الفاقدين لفضيلتي الصبر والشكر ، أنهم كلهم يدعونه في شدة الضيق ومساورة خطر البحر لهم مخلصين له الدين ، لا يتوجهون إلى غيره ممن اتخذوهم شركاء لله تعالى بعبادتهم لهم ، وتوسلهم بهم واتخاذهم وسطاء عنده ، وأنهم إنما يقترفون هذا الشرك وما يناسبه من البغي والظلم وكفر النعمة بعدم إسنادها إلى المنعم الحقيقي في أوقات التمتع بها والسلامة من منغصاتها ، وأن الذين يثبتون على توحيده وشكره هم المقتصدون ، أي المعتدلون في عقائدهم وأخلاقهم فلا تقنطهم الشدة ، ولا تبطرهم النعمة .

ولكن يوجد في زماننا من هم أشد شركا وكفرا بالنعم والمنعم ، وهم قوم يدعون غيره من دونه في أشد أوقات الضيق والخطر ، ويدعون مع ذلك أنهم مسلمون موحدون ؛ لأنهم ينطقون بكلمة التوحيد الموروثة بألسنتهم وهم لا يعقلون معناها ، والله تعالى يقول : ( فاعلم أنه لا إله إلا الله ) ( 47 : 19 ) ولا حول ولا قوة إلا بالله .

التالي السابق


الخدمات العلمية