( 
ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به   ) أي لو أن لكل نفس تلبست بهذا الظلم جميع ما في الأرض من أنواع الملك والزينة وصنوف النعيم وأمكنها أن تفتدي به ، أي تجعله فداء لها من ذلك العذاب الذي قيل لهم ذو قوة ينقذها منه بذلها له ، لافتدت به كله لا تدخر منه شيئا ( 
وأسروا الندامة   ) إسرار الشيء إخفاؤه وكتمانه ، وإسرار الحديث والكلام خفض الصوت به ، فهو ضد إعلانه والجهر به ، ومنه ( 
وأسروا قولكم أو اجهروا به   ) ( 67 : 13 ) ( 
إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون   ) 21 : 110 ) واستعمل بمعنى الجهر مطلقا فهو ضد وأنكره بعضهم ، والندم والندامة ما يجده الإنسان في نفسه من الألم والحسرة عقب كل فعل يظهر له ضرره ، وقد يجهر به بالكلام كقوله : ( 
ياحسرتا على ما فرطت   ) ( 39 : 56 ) أو بالتوبة والاستغفار ، وقد يخفيه ويكتمه لعدم الفائدة من إعلانه أو اتقاء للشماتة أو الإهانة به ، أي وأسر أولئك الذين ظلموا ندامتهم وحسرتهم فيما بينهم وبين ربهم أو كتموها في قلوبهم ( 
لما رأوا العذاب   ) أي رأوا مباديه عيانا بأبصارهم لما برزت الجحيم وأيقنوا أنهم مواقعوها لا مصرف لهم عنها ، وقد يعبر برؤيته عن وقوعه والظاهر الأول لقوله : ( 
وقضي بينهم بالقسط   ) أي وقضى الله بينهم وبين خصومهم بالعدل والحق ، فإذا أريد بالظلم الكفر والتكذيب وما يلزمه من الإيذاء فخصومهم الرسل والمؤمنون بهم ، وكذا من أضلوهم وظلموهم من المرءوسين والضعفاء الذين كانوا يغرونهم بالكفر ويصدونهم عن الإيمان ، وهو ظاهر السياق هنا وفي سورة سبأ بعد حكاية مجادلة الظالمين والمظلومين يوم القيامة : ( 
وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا هل يجزون إلا ما كانوا يعملون   ) ( 34 : 33 ) وإن أريد بالظلم ما يعم ظلمهم للناس في الأحكام وهضم الحقوق كان كل مظلوم خصما لظالمه ( 
وهم لا يظلمون   ) أي لا يظلمهم الله كما ظلموا أنفسهم وظلموا أتباعهم ومقلديهم ، بل هم الذين ظلموا أنفسهم وظلموا غيرهم . والآيات في ندم الظالمين يوم القيامة معروفة كقوله في آخر سورة النبأ : ( 
إنا أنذرناكم عذابا قريبا يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر ياليتني كنت ترابا   ) ( 78 : 40 ) وقوله : ( 
ويوم يعض الظالم على يديه يقول ياليتني اتخذت مع الرسول سبيلا ياويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا   ) ( 25 : 27 و 28 )   
[ ص: 327 ] وغير ذلك . 
ثم قفى على ذلك بالدليل على قدرته على إنفاذ حكمه وإنجاز وعده وكون هؤلاء الظالمين لا يعجزونه ، ولا يستطيعون الافتداء من عذابه ، فقال : ( ألا إن لله ما في السماوات والأرض قلنا مرارا : إن السماوات والأرض عبارة عن جمع العالم ، وهو تعالى مالك السماوات والأرض وملكهما ، وله كل من فيهما من العقلاء ، وما فيهما من غير العقلاء ، وقد نطقت الآيات بهذا كله ولكل مقام مقال ، فهاهنا غلب غير العقلاء بمناسبة ما في الآية السابقة من الإشارة إلى غرور الكافرين والظالمين بما كانوا يمتعون به ، وتعذر الافتداء بشيء منه ، وسيأتي تغليب العقلاء في الآية 66 من هذه السورة لاقتضاء المناسبة له ، وصدر الجملة بحرف التنبيه ( ألا ) الذي يفتتح به الكلام لتنبيه الغافلين عن هذه الحقيقة وإن كانوا يعرفونها لكثرة ذهول الناس عن تذكر أمثالها ، والمعنى : ليتذكر الناسي وليتنبه الغافل وليعلم الجاهل أن لله وحده ما في العوالم العلوية وعالم الأرض يتصرف فيها حيث يشاء ، فيعطي من يشاء ويمنع من يشاء ، ويرحم من يشاء ويعذب من يشاء ، ولا يملك أحد من دونه شيئا من التصرف والفداء ، في يوم البعث والجزاء ( 
ألا إن وعد الله حق   ) أعاد فيه حرف التنبيه تأكيدا لتمييزه بهذا التنبيه عما سبقه لأنه المقصود هنا بذاته وإنما ذكر قبله للاستدلال عليه ، أي كل ما وعد به على لسان رسله حق واقع لا ريب فيه ; لأنه وعد المالك القادر على إنجاز ما وعد لا يعجزه منه شيء ( 
ولكن أكثرهم لا يعلمون   ) يعني بأكثرهم الكفار منكري البعث والجزاء أي لا يعلمون أمر الآخرة لا من طريق النظر والاستدلال ، ولا من طريق الإيمان بما جاء به الرسل عليهم السلام . 
( 
هو يحيي ويميت   ) بقدرته كما يدل عليه النظر والاستدلال ، وقد بسطناه في تفسير الآيتين 31 و 34 ( 
وإليه ترجعون   ) عندما يحييكم بعد موتكم ويحشركم ليحاسبكم ويجزيكم بأعمالكم ، فهذه الآية بيان مستأنف لما قبله بالإيجاز ، وجملة هذه الآيات خاتمة هذا السياق .