صفحة جزء
بطلان الأخذ بالكشف في الدين :

وأما الكشف فهو ضرب من إدراك النفس الناطقة غير ثابت ولا مطرد ، فليس بدليل عقلي ولا شرعي ، وإنما هو إدراكات ناقصة تخطئ وتصيب ، وقد عرفت أسبابه الطبيعية وأن منها ما هو فطري ، ومنها ما هو كسبي وصناعي ، كالتنويم المغناطيسي المعروف في هذا العصر ، وما يسمونه قراءة الأفكار ومراسلة الأفكار ، ويشبهونه بنقل الأخبار بخطوط الأسلاك الكهربائية وبدونها ، وهو يقع للمؤمن والكافر ، والبر والفاجر ، ويعترف به صوفية المسلمين لصوفية الهندوس وغيرهم ، كما يعترفون بتلبيس الشياطين عليهم فيه ، وقلة من يميز بين الكشف الشيطاني والكشف الحقيقي منهم ، ولا يصح أن يسمى حقيقيا إلا ما وافق نصا قطعيا .

ومن دلائل الخطأ والتلبيس والتخيلات في الكشف الذي يسمونه النوراني تعارض أهله وتناقضهم فيه ، وما يذكرونه فيه من معلوماتهم المختلفة باختلاف معلوماتهم الفنية والخرافية والشرعية ، فترى بعضهم يذكر في كشفه جبل قاف المحيط بالأرض والحية المحيطة به كما تراه في ترجمة الشعراني للشيخ أبي مدين وهو من الخرافات التي لا حقيقة لها ، ومنهم من يذكر في كشفه الأفلاك وكواكبها على الطريقة اليونانية الباطلة أيضا . وأكثرهم يذكرون في كشفهم الأحاديث الموضوعة ، فإن اعترض عليهم أو على المفتونين بكشفهم علماء الحديث [ ص: 366 ] قالوا : إن الحديث قد صح في كشفنا وإن لم يصح في رواياتكم ، وكشفنا أصح لأنه من علم اليقين وعلمكم ظني . والحاصل أن كشفا هذا شأنه وشأن أهله إن صح أن يصدق فيما لا يخالف نصوص الشرع وعقائده وأحكامه ، فلا يصح لمن يؤمن بكتاب الله وسنة رسوله أن يصدق منه ما يخالفهما ، وأن يثبت من أمر عالم الغيب ما لم يثبت بهما ، وما أغنانا عن هذا كله ، وفي جمع الجوامع أن الإلهام - وهو الكشف الصحيح عندهم ، ( ( ليس بحجة لعدم ثقة من ليس معصوما بخواطره خلافا لبعض الصوفية ) ) أي ولا يعتد بخلافهم لأنهم خالفوا به الأصول كما خالفوا النصوص .

الكرامات لا تدل على الولاية فضلا عن العصمة :

وأما الكرامات فهي نوع من خوارق العادات التي تروى عن جميع الأمم المختلفة الأديان والملل ، وقد قال علماء الكلام إنها تقع للمؤمن والكافر ، والبر والفاجر ، والنبي والساحر ، ويختلف اسمها باختلاف من ظهرت على يديه ، فتسمى معجزة للنبي المرسل إذا تحدى بها ، وكرامة للرجل الصالح المتبع للرسول ، ومعونة لمن دونه من المؤمنين واستدراجا للكافر والفاسق .

وصحت الأحاديث بأن الدجال يظهر على يديه من الخوارق الكبرى ما قلما كان مثله في المعجزات حتى إحياء الموتى . وقال أئمة الصوفية العارفون : إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء ويطير في الهواء فلا تعتدوا به ( أو كلمة بهذا المعنى ) حتى تروه عند الأمر والنهي الشرعيين ، وقال مثل ذلك الخلاطون منهم ، ففي الباب الثالث من كتاب ( الأنوار القدسية ) للشعراني ( ( وظهور الكرامات ليس بشرط في الولاية وإنما يشترط امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه ، فيكون أمره مضبوطا على الكتاب والسنة ، فمن كان كذلك فالقرآن يشهد بولايته وإن لم يعتقد فيه أحد ) ) إلخ . وهذا عين ما حققناه في تفسير الآية .

ومن خلطه أن أكثر ما ذكره من كلامهم في طبقاتهم مخالف لشرطه ، فهو يبطل ولاية أكثر رجال أهلها من العقلاء فضلا عن المجاذيب المجانين ، فإنهم لا يعدون من الأولياء العارفين ; لأنهم غير مكلفين .

ومنه ، وفي الباب الأول منه : ( ( فلو رأينا الصوفي يتربع في الهواء لا يعبأ به إلا إذا امتثل أمر الله واجتنب نهيه في المحرمات الواردة في الكتاب والسنة ، مخاطبا بتركها كل الخلق المكلفين لا يخرج عن ذلك أحد منهم ، ومن ادعى أن بينه وبين الله تعالى حالة أسقطت عنه التكاليف الشرعية من غير ظهور أمارة تصدقه على دعواه فهو كاذب ، كمن يشطح من شهود في حضرة خيالية على الله وعلى أهل الله ، ولا يرفع بالأحكام الشرعية رأسا ، ولا يقف عند حدود الله تعالى مع وجود عقل التكليف عنده ، فهذا مطرود عن باب الحق ، مبعد [ ص: 367 ] عن مقعد صدق ، وحرام على الفقيه وغيره أن يسلم لمثل هذا ) ) ا ه . وهو يخالف هذا الحق في مواضع أخرى .

ثم قال ( في آخر ص 8 منه ) واعلم أن طريق القوم على وفق الكتاب والسنة ، فمن خالفهما خرج عن الصراط المستقيم كما قال سيد الطائفة أبو القاسم الجنيد - رضي الله عنه - ، فلا تظن أنهم كانوا كحال غالب المنسوبين إلى التصوف في هذا الزمان فتسيء الظن بهم ، إنما كانوا - رضي الله عنهم - عالمين بأسرار الشريعة ، قائمين صائمين زاهدين ورعين خائفين وجلين كما يعلم ذلك من تراجمهم وطبقاتهم ، وإنما أنكر من أنكر على المتشبهين بالمتشبهين بالمتشبهين بالمتشبهين بالمتشبهين بالمتشبهين ست مرات منهم ، فكل قرن منهم بالنسبة لمن قبله يصح عليه الإنكار إذ ادعى أنه على طريقة من كان قبله ، لأن الناس لم يزالوا راجعين القهقرى وإليه الإشارة بقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( ( خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ) ) الحديث ا ه .

أقول : إن هذا التصرف قد ذر قرنه في أواخر القرن الثاني وظهر الشذوذ في المنتحلين له في القرن الثالث . وقد قال الإمام الشافعي الذي توفي سنة 202 هـ . إذا تصوف الرجل في الصباح لا يأتي المساء - أو قال العصر - إلا وهو مجنون . وأنكر الإمام أحمد الذي توفي سنة 241 ه . بعده على خيارهم ، ونهى عن قراءة كتب الحارث المحاسبي على التزامه الكتاب والسنة علما وعملا كما بيناه في تفسير سورة براءة ، وقد توفي الحارث في سنة 243 ه . وهو أستاذ أكابر البغداديين ، وممن أخذ عنه سيد الطائفة أبو القاسم الجنيد ، فإذا قلنا إن الشعراني يعد أهل قرنه العاشر في الدرجة السادسة من المتشبهين بالصوفية ، فالظاهر أنه يعد أهل القرن الخامس أول المتشبهين الذين ينكر عليهم . وقد أنكر الغزالي في كتاب الغرور من الإحياء على المتشبهين بهم وعد منهم فرقا من أهل المكاشفات ، وكان ذلك في أواخر القرن الخامس فإن الغزالي توفي سنة 505 ه . وكان قد تاب إلى الله من علوم التصوف والكلام وانقطع إلى علم السنة : ثم إن ابن الحاج المالكي المتوفى سنة 737 ه . تكلم في كتابه المدخل على هؤلاء المتشبهين بالمشايخ من أهل عصره في القرن الثامن وبين ما لهم من المنكرات وفند ما يدعونه من الكرامات . وقام في هذا القرن أيضا شيخ الإسلام ، مدره السنة الأكبر ، وقامع البدع الأقهر ، أحمد بن تيمية ، نبذ من قبله ، وأغنى عمن جاء بعده ، وعلى كتبه وكتب تلميذه ابن القيم المعول .

[ ص: 368 ] تفضيل أهل الحديث على غيرهم :

ومما كتبه الشعراني في كتابه هذا من الحق بين الأباطيل قوله في الباب الثاني من كتابه المذكور - وهو في طلب العلم - ما نصه :

( ( واعلم أنه ما مت بالإرث للأنبياء عليهم السلام على الحقيقة ، إلا المحدثون الذين رووا الأحاديث بالسند المتصل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - كما قاله شيخنا ، فلهم حظ في الرسالة لأنهم نقلة الوحي ، وهم ورثة الأنبياء في التبليغ ، والفقهاء بلا معرفة دليلهم ليس لهم هذه الدرجة ، فلا يحشرون مع الرسل إنما يحشرون في عامة الناس ، فلا ينطبق اسم العلماء حقيقة إلا على أهل الحديث . وكذلك العباد والزهاد وغيرهم من أهل الآخرة ، إذا لم يكونوا من أهل الحديث حكمهم حكم الفقهاء الذين ليسوا من أهل الحديث ، فيحشرون مع عموم الناس ويتميزون عنهم بأعمالهم الصالحة لا غير كما أن الفقهاء يميزون عن العامة في الدنيا ، لا غير ) ) ا ه .

ولكن بعض من يسمون كبار العلماء في زماننا يفضلون خرافات المتشبهين بالمتصوفة في الدرجة السادسة إلى العاشرة وآراء مقلدي الفقهاء في الدرجة الخامسة - وهي السفلى - على علماء الحديث وفقهائه وحكمائه ، ويطعنون في المحدثين وكل من يهتدي بالحديث قولا وكتابة بل صرح بعضهم بأن من يعمل بالحديث فهو زنديق ! ! .

التالي السابق


الخدمات العلمية