صفحة جزء
[ ص: 51 ] قصة نوح عليه السلام :

( ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه إني لكم نذير مبين أن لا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين )

تقدم ذكر خلاصة من هذه القصة في سورة يونس مختصرة مبدوءة بقوله - تعالى - : ( واتل عليهم نبأ نوح ) ( 10 : 71 ) إلخ ، وبينت في تفسيرها نكتة هذا العطف فيها ، ووجه اتصال الكلام بما قبله فكان متمما وشاهدا له ، وتقدمت قبل ذلك في سورة الأعراف مختصرة أيضا مبدوءة بقوله - تعالى - : ( لقد أرسلنا نوحا إلى قومه ) ( 7 : 59 ) وأشرت في تفسيره إلى وجه التناسب واتصال الكلام بما جاء في أول السورة من ذكر بعثة الرسل عامة . وقد جاءت في هذه السورة مفصلة مناسبة لما قبلها بما نبينه فيما يلي فنقول :

- ( ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه ) قال المعربون من المفسرين : إن الواو هنا للابتداء ، أي لأن معنى الجملة لا يشترك مع ما قبله بما يصح جعلها معطوفة عليه . وأقول : إن هذا سياق جديد في السورة ، أكد به ما قبله من الدلائل على أصول الدين من التوحيد والبعث والنبوة ، فهو يشترك معه في جملته لا مع آخر آية منه ، وعندي أن هذه القصة معطوفة على ما في أول هذه السورة من ذكر بعثة محمد رسول الله وخاتم النبيين - صلى الله عليه وسلم - بمثل ما بعث به من قبله من الدعوة إلى عبادة الله وحده ، وبعثه نذيرا وبشيرا ، والإيمان بالبعث والجزاء ; ليعلم قومه أنه - صلى الله عليه وسلم - ليس بدعا من الرسل ، وأن حاله معهم كحال من قبله من الرسل - عليهم السلام - مع أقوامهم إجمالا وتفصيلا ، كما قال في سورة الإسراء : ( سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا ) ( 17 : 77 ) فكأنه قال : لقد أرسلناك يا محمد إلى قومك وإلى الناس كافة بما تقدم بيان أصوله ، ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه بمثل ما أرسلناك إلخ .

[ ص: 52 ] وافتتحت القصة بصيغة القسم ; لإنكار المخاطبين بها لبعثة الرسل ، وقدمنا بيان ما كان للقسم عند العرب من التأثير في تأكيد الكلام ، وناهيك به في كلام الله المنزل على من عرف عندهم بالصدق من أول نشأته وهو محمد - عليه الصلاة والسلام - إني لكم نذير مبين - أي أرسلناه ببيان وظيفته من الإنذار لهم ، أو قائلا لهم : إني لكم نذير بين الإنذار ظاهره ، وهو الإعلام بالشيء مع بيان عاقبة من خالفه فلم يذعن لما فيه من الأمر والنهي ، ثم فسر هذا الإرسال والإنذار بقوله :

( أن لا تعبدوا إلا الله ) بأن لا تعبدوا إلا الله ، بل اعبدوه وحده ولا تشركوا به شيئا ( وهذا عين ما تقدم في الآية الثانية ) وكانواأول قوم أشركوا بالله واتخذوا له الأنداد ، وكان أول رسول أرسله الله - تعالى - إلى أهل الأرض ، كما تقدم في قصته من سورة الأعراف ( إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم ) أي شديد الألم ; وهو يوم القيامة أو يوم عذاب الاستئصال بالطوفان ، وصف بالألم للمبالغة ، وإنما يشعر بالألم من يعذب فيه من الكافرين الظالمين ، وفي قصته من سورة الأعراف : ( عذاب يوم عظيم ) ( 7 : 59 ) أي ألمه وهوله ، وهو أقرب إلى قوله في الآية الثالثة من هذه السورة : ( عذاب يوم كبير ) والمراد واحد .

ويجوز أن يكون ما قاله نوح جامعا لمعنى الألم ومعنى العظمة والكبر ; إذ القرآن يبين المعاني المحكية بالألفاظ المختلفة في السور المتعددة كما قلنا من قبل ، ويأتي في بعضها بما يغني عن بعض ، ومن ذلك قول نوح في سورة ( ( المؤمنون ) ) بعد الأمر بعبادة التوحيد وتقريره : ( أفلا تتقون ) ( 23 : 23 ) ومثله فيها عن الرسول الذي بعده . وكان كل رسول يأمر قومه بالتقوى ، كما كرر حكايته عنهم في الشعراء ، إذ التقوى ملاك الأمر كله .

( فقال الملأ الذين كفروا من قومه ) أي فبادر الملأ ، أي الأشراف والزعماء الذين كفروا من قومه إلى الجواب ليكون الدهماء تبعا لهم كعادتهم ، واقترن جوابهم هنا بـ ( ( الفاء ) ) ; لأنه هو الأصل في الرد السريع ، ومثله في سورة ( ( المؤمنون ) ) وتقدم في سورة الأعراف مفصولا وهو : ( قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين ) ( 7 : 60 ) لأنه هو الأصل في باب المراجعة يقال: . . قال . . . . . ويسمى الاستئناف البياني ، والفرق بينهما في الموضعين من هذه القصة أن الموصول بالفاء أريد به المبادرة إلى الرد على نوح بما يبطل دعوته بزعمهم ، والمفصول ليس إلا طعنا وتخطئة ، وهو من جملة ما رموه به لا يعلم متى وقع منهم ، وليس جوابا متصلا بالدعوة ، فيالله العجب من هذه الدقة في بلاغة القرآن !

( ما نراك إلا بشرا مثلنا ) في الجنس ، لا مزية لك علينا تكون بها نذيرا لنا نطيعك ونتبعك مذعنين لنبوتك ورسالتك ( وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا ) أي أردياؤنا وأخساؤنا يقال : رذل الشيء أو المرء بضم الذال ( كضخم ) فهو رذل بسكونها ( كضخم ) وجمعه أرذل بضم الذال ، وجمع [ ص: 53 ] الجمع أراذل أو هو جمع ( ( أرذل ) ) بصيغة التفضيل ، ويؤيده في سورة الشعراء : ( واتبعك الأرذلون ) ( 25 : 111 ) ويعنون بهم من دون طبقة الأشراف والأكابر كالزراع والصناع والعمال ، وهم الذين يقبلون الحق إذا فهموه لعدم استكبارهم عن اتباع غيرهم ( ( بادي الرأي ) ) أي اتبعوك في بادي الرأي أي ظاهره الذي يبدو للناظر فيه ، قبل العلم بما وراء قوادمه من خوافيه ، والتأمل في باطنه ، والغوص في أعماقه ، أو في بدئه وما يظهر منه أول وهلة قبل تكرار التفكير فيه ، والنظر في عواقبه وتواليه ، فالياء على هذا منقلبة عن همزة لانكسار ما قبلها . ويؤيده قراءة أبي عمر بالهمزة ( ( بادئ ) ) وقراءة الجمهور أبلغ لاحتمالها الجمع بين المعنيين ( وما نرى لكم علينا من فضل ) أي وما نرى لك ولمن اتبعك علينا أدنى فضل تمتازون به في جماعتكم ، كالقوة والكثرة والعلم والرأي يحملنا على اتباعكم والنزول عن جاهنا وامتيازنا عليكم بالجاه والمال لمساواتكم ( بل نظنكم كاذبين ) أي بل الأمر شر من ذلك وهو أننا نظنكم كاذبين في جملتكم : المتبوع في دعوى النبوة ، والتابعون في تصديقه ، فهي إذا ائتمار بنا تحاولون به أن تقلبوا الحقيقة فتجعلوا الفاضل مفضولا ، والشريف مشروفا ، وقد كرموا أنفسهم بعدم الجزم بالتكذيب فعبروا عنه بالظن .

أجابوه بأربع حجج داحضة : ( الأولى ) أنه بشر مثلهم فساووه بأنفسهم في الجملة ، وهذا يدل على أنه - عليه السلام - كان من طبقتهم أو ما يقرب منها في بيته وفي شخصه ، وهكذا كان كل رسول من وسط قومه ، ووجه الجواب : أن المساواة تنافي دعوى تفوق أحد المتساويين على الآخر بجعل أحدهما تابعا طائعا ، والآخر متبوعا مطاعا ; لأنه ترجيح بغير مرجح .

( والثانية ) أنه لم يتبعه منهم إلا أراذلهم في الطبقة والمكانة الاجتماعية ( ( بادي الرأي ) ) لا بدليل من العقل والعلم ، وبهذا تنتفي المساواة فينزل هو عن رتبة الطبقة العليا إلى رتبة من اتبعه من الطبقات السفلى ، وهذا مرجح لرد دعوته والتولي عنه .

( الثالثة ) عدم رؤية فضل له مع جماعته هؤلاء عليهم ، من قوة عصبية أو كثرة غالبة ، أو غير هذا من المزايا التي ترفع الأراذل من مقعدهم في السفلة ، فيهون على الأشراف مساواتهم في اتباعه .

( الرابعة ) أنهم بعد الإضراب أو صرف النظر عما ذكروا من التنافي والتعارض يرجحون الحكم عليه وعليهم بالكذب في هذا الدعوى ، وهذا هو المرجح الأقوى لرد الدعوة ، وقد أخروه في الذكر لأنهم لو قدموه لما بقي لذكر تلك العلل الأخرى وجه وهي وجيهة في نظرهم لا بد لهم من بيانها ، وهذه الأخيرة طعن لهم على نوح - عليه السلام - أشركوه فيه مع أتباعه ولم يجابهوه به وحده ، ولم يجزموا به ، كما أنهم لم يجعلوه في طبقتهم من الرذالة ، ونحن نرى ملاحدة هذا العصر كقوم نوح ومن بعده في حججهم الداحضة ، وغرورهم وعمى [ ص: 54 ] قلوبهم ، لا يفضلونهم بشيء إلا الغرور بفنون الإفرنج وقوتهم ، وجعلها حجة على تقليد أراذلهم في شر رذائلهم ، وتحقير أنفسهم وأمتهم ولغتهم ، فهم شر من قوم نوح ، إذ كان تقليد قوم نوح لآبائهم تعظيما لهم ، والبلاء عندنا من فساد أمرائنا وباشاواتنا وأغنيائنا ، فهم في مجموعهم أو أكثرهم كملأ نوح شر طبقات هذه الأمة وأشدها فسادا وإفسادا .

التالي السابق


الخدمات العلمية