صفحة جزء
قصة صالح عليه السلام :

هو النبي الرسول الثاني من العرب ، وتقدم ذكر قصته في سبع آيات من سورة الأعراف ، ذكرت في أول تفسيرها مساكن قبيلته ثمود وهي : الحجر بين الحجاز والشام ، وهاهي ذي قد ذكرت هنا في ثماني آيات تضاهي تلك السبع ، وستجيء في 19 آية من سورة الشعراء أقصر من آيات هاتين السورتين ، ثم في تسع من سورة النمل تناهز آيات الأعراف ، ثم في تسع من سورة القمر قصار ، وذكرت قبلهن في خمس من سورة الحجر ، وبعدهن في خمس من سورة الشمس ، وثلاث من سورة الذاريات ، وثنتين من سورة النجم ، وفي كل من الموعظة والعبرة في موضعها ما يليق بها ، ولا يغني عنها غيرها .

[ ص: 101 ] وإلى ثمود أخاهم صالحا قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب ( 61 ) قالوا ياصالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب ( 62 ) قال ياقوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة فمن ينصرني من الله إن عصيته فما تزيدونني غير تخسير ( 63 )

هذه الآيات الثلاث في تبليغ دعوة صالح لقومه وردهم لها واحتجاجه عليهم .

- وإلى ثمود أخاهم صالحا قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره - هذا نص ما تقدم في تبليغ هود عليه السلام ، ثم قال : - هو أنشأكم من الأرض - أي هو بدأ خلقكم من الأرض بخلق أبيكم آدم منها مباشرة ، ثم يخلق كل منكم من سلالة من طين الأرض ، فإن النطفة التي تتحول في الرحم إلى علقة فمضغة فهيكل عظمي يحيط به لحم هي من الدم ، والدم من الغذاء ، والغذاء الغالب إما نبات من الأرض ، وإما لحم يرجع إلى النبات في طور واحد أو أكثر - واستعمركم فيها - أي : وجعلكم عمارا فيها من العمران ، فقد كانوا زراعا وصناعا وبنائين : وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين 15 : 82 وقيل : من العمر ، أي أطال أعماركم فيها ، والصحيح الأول ، واستعمل الاستعمار في عصرنا بمعنى استيلاء الدول القوية على بلاد المستضعفين واستثمارها واستعباد أهلها لمصالحهم ، والمراد أنه هو المنشئ لخلقكم والممدكم بأسباب العمران والنعم فيها ، فلا يصح أن تعبدوا فيها غيره ; لأنه هو صاحب الفضل كله ، والمستحق للعبادة وحده - فاستغفروه ثم توبوا إليه - أي : فاسألوه أن يغفر لكم ما أشركتم وما أجرمتم ، ثم توبوا وارجعوا إليه كلما وقع منكم ذنب أو خطأ ، وتقدم مثله في دعوة هود قريبا وفي دعوة محمد - صلى الله عليه وسلم - في أول السورة - إن ربي قريب مجيب - قريب من عباده لا يخفى عليه شيء من استغفارهم ، والباعث عليه من أحوالهم ، [ ص: 102 ] مجيب لدعاء من دعاه مؤمنا مخلصا له الدين كما قال في سورة البقرة : - وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان 2 : 186 فيراجع تفسيرها المفصل هنالك .

- قالوا ياصالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا - أي : قد كنت موضع رجائنا لمهمات أمورنا ، لما لك من المكانة في بيتك وفي صفاتك الشخصية من العقل والرأي ، قبل هذا الذي تدعونا إليه من تبديل ديننا بما تزعم من بطلانه فانقطع رجاؤنا منك - أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا - ؟ الاستفهام للإنكار والتعجب ، أي : أتنهانا أن نعبد ما كان يعبد آباؤنا من قبلنا واستمر فينا لا ينكره ولا يستقبحه أحد ؟ فالآباء يشمل الغابرين والحاضرين ، ولو قالوا : ما عبد آباؤنا لما أفاد هذا ، فلا حاجة إلى القول بأن التعبير بالمضارع حكاية مصورة للحال الماضية في صورة الحاضرة - وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب - أي : وإنا لواقعون في شك مما تدعونا إليه من عبادة الله وحده لا نتوسل إليه بأحد من أوليائه وأحبائه الشفعاء لنا عنده المقربين لنا إليه ، ولا بتعظيم ما وضعه آباؤنا لهم من الصور والتماثيل المذكرة بهم ، لا ندري مرادك وغرضك منه ، فإنه موجب للريب وسوء الظن . قال في المصباح المنير : الريب : الظن والشك ، ورابني الشيء يريبني إذا جعلك شاكا ، قال أبو زيد : رابني من فلان أمر يريبني ريبا : إذا استيقنت منه الريبة ، فإذا أسأت به الظن ولم تستيقن منه الريبة ، قلت : أرابني منه أمر هو فيه إرابة ، وأرابني فلان إرابة فهو مريب : إذا بلغك عنه شيء أو توهمته اهـ .

- قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة - تقدم مثل هذا حكاية عن نوح في الآية 28 إلا أنه قال : - رحمة من عنده - أي : أخبروني عن حالي معكم إن كنت على حجة واضحة قطعية من ربي فيما أدعوكم إليه ، ووهبني رحمة خاصة منه جعلني بها نبيا مرسلا إليكم - فمن ينصرني من الله إن عصيته - بكتمان الرسالة أو ما يسوءكم من بطلان عبادة أصنامكم وأوثانكم تقليدا لآبائكم ؟ أي لا أحد ينصرني من الله ويدفع عني عقابه في هذه الحالة ، وإذن لا أبالي بفقد رجائكم في ، ولا بما أنتم فيه من شك وارتياب في أمري - فما تزيدونني غير تخسير - أي ما تزيدونني بحرصي على رجائكم في واتقاء سوء ظنكم وارتيابكم ، غير إيقاع في الخسران بإيثار ما عندكم على ما عند الله ، واشتراء رضاكم بسخط الله - تعالى - ، أو غير إيقاع في الهلاك ، قال في مجاز الأساس : وخسره سوء عمله : أهلكه ، وفي المصباح المنير : وخسرت فلانا بالتثقيل أبعدته ، وخسرته : نسبته إلى الخسران ، مثل كذبته بالتثقيل إذا نسبته إلى الكذب ، مثله فسقته وفجرته إذا نسبته إلى هذه الأفعال ، وقال الفراء في الجملة : فما تزيدونني غير تضليل وإبعاد من الخير ، وقال مجاهد وعطاء الخراساني : ما تزدادون أنتم إلا خسارا . انتهى . . . ولعل مرادهما : ما تزيدونني بقولكم إلا علما بخساركم باستبدال الشرك بالتوحيد .

التالي السابق


الخدمات العلمية