صفحة جزء
تحقيق مسألة طاعة الأئمة والأمراء : إن هذا البحث الذي فتح بابه ودخله هذان المجددان في تفسيريهما ( فتح القدير ، وفتح البيان ) كان استدراكا ضروريا لما فسر به الآية جمهور من قبلهما فاقتصروا وقصروا ، لولاه لما كان إليه حاجة في فهم الآية ، على أنهما على سبقهما لم يسلما من تقصير ، ولم يأتيا بكل ما يحتاج إليه البحث من تحرير ، وأوردا الأحاديث بالمعنى بدون تخريج ولا تدقيق .

أهم ما في البحث من حاجة إلى التحرير ، مسألة طاعة الملوك والسلاطين والأمراء الظالمين وإن تفاقم ظلمهم فسلبوا الأموال ، وضربوا ظهور الرجال ، ما داموا لا يظهرون الكفر البواح ( هو بالفتح : الظاهر المكشوف ) وقد اشتهر أن هذا مذهب أهل السنة ، وأن وجوب الخروج عليهم مذهب الزيدية .

والصواب أن المسألة فيها نظر ، فإطلاق القول فيها يحتاج إلى تقييد ، وإجماله لا ينجلي إلا ببيان وتفصيل ، وقد سبق لنا تحريره في كتاب ( الخلافة 0 أو الإمامة العظمى ) وفي هذا التفسير .

وخلاصة القول الحق أنه لا تعارض بين وجوب طاعة الأئمة والأمراء فيما لا معصية فيه لله تعالى من المعروف ، وبين النهي عن الركون إلى الظالمين ، وحظر ما دون الركون إليهم مما قاله المفسرون وغيرهم ، وما في معنى هذا النهي من آيات الذكر الحكيم في تقبيح الظلم ، وبيان كونه سببا لهلاك الأمم في الدنيا وعذابها في الآخرة ، وكذا الآيات الدالة على سلطة الأمة عليهم .

وما ورد من الأحاديث في طاعتهم يقابله ما ورد فيها من وجوب الأخذ على أيدي الظالمين عامة ، وعلى أئمة الجور والأمراء خاصة ، ووجوب تغيير المنكر باليد أولا فإن لم يستطع فباللسان ، وكون إنكاره بالقلب عند عدم الاستطاعة لما قبله أضعف الإيمان ، [ ص: 151 ] ومنه عدم الميل إليهم ولو يسيرا ، وهو الذي فهمه من ذكرنا من المفسرين من النهي عن الركون ، فإنكارهم له حق في نفسه ، وإنما أخطأ من أخطأ في تفسير الركون به .

وحسبنا هنا ما رواه الإمام أحمد وأصحاب السنن وغيرهم في تفسير قوله - تعالى - : - عليكم أنفسكم - 5 : 105 الآية ، ففي المسند من طريق قيس ( أبي حازم ) قال : قام أبو بكر - رضي الله عنه - فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : يا أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية : - ياأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم - حتى أتى على آخر الآية - ألا وإن الناس إذا رأوا الظالم لم يأخذوا على يديه أوشك الله أن يعمهم بعقابه ، ألا وإني سمعت رسول الله يقول : " إن الناس " . . . وفي رواية أخرى عنه أنه خطب فقال : " يا أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية وتضعونها على غير ما وضعها الله : - ياأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم - سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : إن الناس إذا رأوا المنكر بينهم فلم ينكروه يوشك أن يعمهم الله بعقابه " ، وهذا الحديث رواه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد والحميدي في مسانيدهم وأصحاب السنن الأربعة وغيرهم .

وفي معنى هذا الحديث ما رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا ، فجالسوهم في مجالسهم ، وآكلوهم وشاربوهم فضرب الله قلوب بعضهم ببعض فلعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون 5 : 78 قال : فجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان متكئا فقال : " لا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم أطرا " وفي رواية أبي داود قال : قال : " كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ، ولتأخذن على يدي الظالم ، ولتأطرنه على الحق أطرا ، ولتقصرنه على الحق قصرا ، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم ليلعنكم الله كما لعنهم " اهـ .

أطره على الحق وغيره : عطفه وثناه ، وقصره عليه حبسه وأمسكه عليه حتى لا يتعداه ( وبابهما ضرب ) .

والأصل المجمع عليه أن الطاعة الواجبة في الشرع هي لأولي الأمر من الأئمة ( الخلفاء ) ونوابهم من السلاطين وأمراء الجيوش والولاة ، وكلها مقيدة بالمعروف من الواجب والمندوب والمباح ، دون المحظور . وأما طاعة المتغلبين فهي للضرورة ، وتقدر بقدرها بحسب المصلحة ، ويجب إزالتها عند الإمكان من غير فتنة ترجح مفسدتها على المصلحة ، فخروج الإمام الحسين السبط - عليه السلام - على يزيد الظالم الفاسق كان حقا موافقا للشرع ، ولكنه ما أعد له عدته الكافية ، بل خذله من عاهدوه على نصره ، وقد امتنع أبو حنيفة [ ص: 152 ] من الإجابة إلى ولاية القضاء ، وفر منها الشافعي ، وكان من أمر مالك ما كان حتى روي أنه ترك صلاة الجمعة مع ولاتهم .

قال الإمام أبو محمد بن حزم في كتابه ( مراتب الإجماع ) : واتفقوا أن الإمام الواجب إمامته ، فإن طاعته في كل ما أمر ما لم يكن معصية فرض ، والقتال دونه فرض ، وخدمته فيما أمر به واجبة ، وأحكامه وأحكام من ولى نافذة ، واختلفوا فيما بين مدن الطرفين من إمام قرشي غير عدل أو متغلب من قريش أو مبتدع إلخ . وأورد الشوكاني في الباب من " نيل الأوطار " حديث عبادة بن الصامت : " بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا ، وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا ، وأن لا ننازع الأمر أهله ، إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم فيه من الله برهان " ، متفق عليه . وقال الشوكاني في شرحه ما نصه :

قوله : " عندكم فيه من الله برهان " أي : نص آية ، أو خبر صريح لا يحتمل التأويل .

ومقتضاه أنه لا يجوز الخروج عليهم ما دام فعلهم يحتمل التأويل ، قال النووي : المراد بالكفر هنا المعصية ، ومعنى الحديث : لا تنازعوا ولاة الأمور في ولايتهم ، ولا تعترضوا عليهم إلا أن تروا منهم منكرا محققا تعلمونه من قواعد الإسلام ، فإذا رأيتم ذلك فأنكروا عليهم وقولوا بالحق حيثما كنتم . انتهى .

" قال في الفتح : وقال غيره : إذا كانت المنازعة في الولاية ، فلا ينازعه بما يقدح في الولاية إلا إذا ارتكب الكفر ، وحمل رواية المعصية على ما إذا كانت المنازعة فيما عدا الولاية ، فإذا لم يقدح في الولاية نازعه في المعصية بأن ينكر عليه برفق ، ويتوصل إلى تثبيت الحق له بغير عنف ، ومحل ذلك إذا كان قادرا ، ونقل ابن التين عن الداودي قال : الذي عليه العلماء في أمراء الجور أنه إن قدر على خلعه بغير فتنة ولا ظلم وجب ، وإلا فالواجب الصبر ، وعن بعضهم : لا يجوز عقد الولاية لفاسق ابتداء ، فإن أحدث جورا بعد أن كان عدلا فاختلفوا في جواز الخروج عليه ، والصحيح المنع ، إلا أن يكفر فيجب الخروج عليه ، قال ابن بطال : إن حديث ابن عباس المذكور في أول الباب حجة في ترك الخروج على السلطان ولو جار .

" قال في الفتح : وقد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلب والجهاد معه ، وأن طاعته خير من الخروج عليه لما في ذلك من حقن الدماء وتسكين الدهماء ، ولم يستثنوا من ذلك إلا إذا وقع من السلطان الكفر الصريح ، فلا يجوز طاعته في ذلك ، بل تجب مجاهدته لمن قدر عليها كما في الحديث . انتهى .

[ ص: 153 ] " وقد استدل القائلون بوجوب الخروج على الظلمة ومنابذتهم السيف ومكافحتهم بالقتال ، بعمومات من الكتاب والسنة في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ولا شك ولا ريب أن الأحاديث التي ذكرها المصنف في هذا الباب وذكرناها أخص من تلك العمومات مطلقا ، وهي متواترة المعنى كما يعرف ذلك من له أنسة بعلم السنة ، ولكنه لا ينبغي لمسلم أن يحط على من خرج من السلف الصالح من العترة وغيرهم على أئمة الجور ، فإنهم فعلوا ذلك باجتهاد منهم ، وهم أتقى لله وأطوع لسنة رسول الله من جماعة ممن جاء بعدهم من أهل العلم ، ولقد أفرط بعض أهل العلم كالكرامية ، ومن وافقهم في الجمود على أحاديث الباب ، حتى حكموا بأن الحسين السبط - رضي الله عنه وأرضاه - باغ على الخمير السكير الهاتك لحرم الشريعة المطهرة يزيد بن معاوية لعنهم الله ، فيالله العجب من مقالات تقشعر منها الجلود ، ويتصدع من سماعها كل جلمود . انتهى ما في نيل الأوطار .

هذا وإن حديث ابن عباس الذي عزاه إلى أول الباب هو قوله - صلى الله عليه وسلم - " من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر ، فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات فميتته جاهلية " هو متفق عليه . وهذا وما في معناه من أحاديث لزوم الجماعة وإمامهم الذي بايعوه واجتمعت كلمتهم عليه ، أخص مما تقدم الكلام فيه عن العلماء في أمراء الجور ، وقد قالوا في معنى موته ميتة جاهلية : إنه يموت وليس في عنقه بيعة لإمام يلتزمها مع جماعة المؤمنين ، كما صرح به في بعض الروايات ، فيكون كما كان عليه أهل الجاهلية من الفوضى لا أنه يكون كافرا اهـ .

وكل هذا في خروج بعض الأفراد أو الفئات على إمام المسلمين وجماعتهم بشق عصا الطاعة ، وتفريق شمل الجماعة ، وهو الفساد في الأرض ، وإن كان الإمام ظالما ، فإن كف الإمام عن الظلم ولو بالعزل فهو حق أهل الحل والعقد الذين هم محل ثقة الأمة ، الذين يمثلون الرأي العام فيها ، الذين عناهم خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله في خطبته الأولى عقب مبايعته : " فإذا استقمت فأعينوني ، وإذا زغت فقوموني " .

التالي السابق


الخدمات العلمية