صفحة جزء
[ ص: 164 ] الخلاصة الإجمالية لسورة هود عليه السلام :

( وفيها ستة أبواب ) :

هذه السورة أشبه بسورة يونس التي قبلها ، في أسلوبها وما اشتملت من أصول عقائد الإسلام التي بيناها في خلاصتها من التوحيد والبعث والجزاء والعمل الصالح ، وعاقبة الظلم والفساد في الأرض ، وحجج القرآن وإعجازه والتحدي به ، وإثبات نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - وقصص الرسل - عليهم السلام - وسنن الله في الأمم ، ومناسبة لها في براعة المطلع والمقطع كما بيناه في فاتحة هذه - ولكن في تلك من التفصيل في محاجة المشركين في التوحيد والقرآن والرسالة ما أجمل في هذه ، وفي هذه من التفصيل في قصص الرسل ما أجمل في تلك ; لهذا نختصر في خلاصتها الإجمالية فيما عدا قصص الرسل والبعث والجزاء وعاقبة الأقوام في الدنيا والآخرة فنقول :

( الباب الأول ) :

( في توحيد الله - تعالى - وصفاته وتدبيره لأمور عباده وسننه في تصرفه فيهم بالرحمة والفضل ، وجزائهم على أعمالهم بالعدل ، والتنزه عن الظلم . وفيه ثلاثة فصول ) :

( الفصل الأول : في توحيد الألوهية والربوبية )

( 1 ) توحيد الألوهية :

هو أول ما دعا إليه محمد رسول الله وخاتم النبيين - صلى الله عليه وسلم - وأول ما دعا إليه جميع من قبله من رسل الله - عز وجل - ، أعني عبادة الله وحده ، وعدم عبادة شيء غيره أو معه ، كما تراه بعد افتتاح السورة بذكر القرآن من خطابه - تعالى - لقومه وأمته بقوله في الآية الثانية : - ألا تعبدوا إلا الله - ومثله أول ما دعا إليه نوح - عليه السلام - في الآية ( 26 ) منها ، وفي معناه أول ما دعا إليه هود في الآية ( 50 ) وصالح في الآية ( 61 ) وشعيب في الآية : - قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره - 84 .

وأن أكثر الذين يقرءون القرآن أو يسمعونه ، وهم يأخذون عقائدهم المشوبة بالوثنية من تقاليد آبائهم الجاهلين لا من القرآن ، يظنون أن المراد بالعبادة في هذا الأمر والنهي عبادة الإسلام المنزلة من الصلاة والصيام ونحوهما مما جاء به أولئك الرسل أيضا ; لأنهم يجهلون أن دعوتهم هذه هي أول ما وجهوه إلى المشركين غير المؤمنين بهم ، قبل فرضية العبادات المنزلة عليهم ، نهوهم بها عن عبادتهم الوثنية التقليدية وهي دعاء غير الله لجلب النفع وكشف الضر [ ص: 165 ] والذبح لغير الله ، والنذر لغير الله ، وشد الرحال لتعظيم غير الله تعظيما تعبديا يتقربون به إلى غير الله ليقربهم إلى الله ، ويشفع لهم عنده ، ويظنون أن المراد بغير الله من هذه المعبودات خاص بالأصنام كما يرون تفسيرها في مثل الجلالين ، وأن دعاء الأنبياء والأولياء لدفع الضر وجلب النفع والنذور وتقريب القرابين لهم لا ينافي دين الله وتوحيده على هذا التفسير .

والصواب المجمع عليه ، والمعلوم من دين الإسلام بالضرورة ونصوص القرآن القطعية ، أنه لا فرق في عبادة غير الله بمثل ما ذكرنا بين الأصنام وغيرها من حجر وشجر وكوكب ، أو بشر : ولي أو نبي ، أو شيطان أو ملك ، إذا توجه العبد إليها توجها تعبديا ابتغاء نفع أو كشف ضر في غير العادات والأسباب التي سخرها الله لجميع الناس ، فعبادة الملك أو النبي أو الولي كفر كعبادة الشيطان أو الوثن والصنم بغير فرق ; إذ كل ما عدا الله فهو عبد وملك لله ، لا يتوجه إليه مع الله ولا من دون الله ، ولا لأجل التقريب زلفى إلى الله ، بل يتوجه في كل ما سوى العادات العامة إلى الله وحده كما أمر الله إبراهيم ومحمدا - صلى الله عليه وسلم - في كتابه ، ولا فرق في هذا التوجه بين تسميته عبادة كما كانت العرب تقول وهي أعلم بلغتها ، وبين تسميته توسلا أو استشفاعا كما فعل بعض المتأخرين ، فالمعنى واحد لا يختلف حكمه باختلاف أسمائه .

( 2 ) توحيد الربوبية

: الإله : هو المعبود الذي يتوجه إليه بالدعاء والتأله والخشوع الخاص بالإيمان بالسلطان الغيبي ، والرب : هو الخالق المربي والمدبر لعباده والمتصرف فيهم بذاته ، ومقتضى حكمته ونظام سننه ، وتسخيره الأسباب لمن شاء بما شاء ، وكان أكثر مشركي العرب ومن قبلهم من أقوام الأنبياء يؤمنون بأن الرب الخالق المدبر واحد ، وإنما يقولون بتعدد الآلهة التي يتقرب إليها توسلا إلى الله وطلبا للشفاعة عنده ، كانت الأنبياء والرسل تقيم الحجة عليهم بأن توحيد الربوبية يقتضي توحيد الألوهية ; إذ العبادة لا تصح ولا تنبغي إلا للرب وحده ، وآيات القرآن في هذا كثيرة جدا .

تأمل كيف خاطب الله أمة خاتم النبيين في الآية الثانية من هذه السورة بعبادته وحده ، وفي الآية الثالثة عقبها باستغفار ربهم والتوبة إليه من كل ذنب ليمتعهم متاعا حسنا ويؤتي كل ذي فضل فضله ، وتجد مثل هذا في قصة هود ( 52 ) وفي قصة شعيب ( 90 ) وتأمل كيف بين لنبيه في الآيتين 6 و 7 أنه - ما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها - ، وأنه هو الذي خلق السموات والأرض إلخ . والمراد أن العبادة لا تصح ولا تنبغي إلا له سبحانه .

ثم تأمل كيف أخبر نوح وهو أول الرسل قومه وهم أول من ابتدع الشرك بالغلو [ ص: 166 ] في تعظيم الصالحين في الآية ( 31 ) بأنه ليس عنده خزائن الله فيقدر على رزقهم أو نفعهم ، وأنه لا يعلم الغيب ولا يقول إنه ملك يتصرف في تدبير العالم بإقدار الله إياه على ذلك كما فعلوا ، إذ صاروا يدعون غير الله من المقربين عنده والمقربين إليه بزعمهم ، وتقدم مثلها عن نبينا - صلى الله عليه وسلم - في الآية ( 50 ) من سورة الأنعام ، وفي معناهما من سورة الأعراف ( 7 : 188 ) ومن سورة يونس ( 10 : 49 ) .

ثم تأمل في قصة هود آية : - إني توكلت على الله ربي وربكم - 56 إلخ ، وفي معناه توكل شعيب في الآية ( 88 ) ثم ختم السورة بأمر نبينا - صلوات الله وسلامه - عليه بقوله : - ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه - 123 فجمع بين العبادة وهي أعلى توحيد الألوهية ، والتوكل وهو أعلى توحيد الربوبية ، ونعزز هذه الشواهد بما يأتي عن الرسل - عليهم السلام - في الباب الثالث ولا سيما الفصل الثالث منه .

التالي السابق


الخدمات العلمية