صفحة جزء
( الثانية : أنهم بشر مرسلون ) ، أي لا يملكون من أمور العالم شيئا مما هو فوق كسب [ ص: 172 ] البشر غير ما خصهم الله به من الرسالة ، دون شئون ربوبيته أو ما خص به ملائكته ، حتى إنهم لا يملكون هداية أحد إلى الدين بالفعل ؛ لأن هدايتهم خاصة بالتبليغ والتعليم كما تقدم آنفا ، وحكاية نوح مع ابنه الكافر حجة في هذا الموضوع واضحة ، والشواهد على هذا في القرآن كثيرة .

و ( منها ) في هذه السورة ما علمت من آيات توحيد الربوبية ، والرد على مشركي مكة في اقتراحهم مجيء الملك بقوله - تعالى - : - فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل - 12 وقوله حكاية عن نوح : - ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك - 31 وتقدم ما في معناه عن خاتم النبيين - صلى الله عليه وسلم - قريبا ، وفي معناه آيات كثيرة في السور الأخرى .

( ومنها ) في احتجاج المشركين على رسلهم بأنهم بشر في قصة نوح : - فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا - 27 وقد قال مثل هذا سائر أقوام الرسل بعده إلى خاتمهم محمد صلوات الله عليهم أجمعين .

ولو كان أولئك الرسل في عصرهم على غير ما يعهد أقوامهم من البشر ، بأن يكونوا يتصرفون في الكون بالضر والنفع وعلم الغيب ، لما احتجوا عليهم بأنهم بشر مثلهم كما يدعي الذين ضلوا من أقوامهم من بعدهم عما جاءوا به مع دعوى اتباعهم ، فزعموا أنهم هم وبعض من وصفوا بالصلاح والولاية من أتباعهم يضرون وينفعون ، ويشقون ويسعدون ، ويميتون ويحيون : أحياؤهم وأمواتهم في هذا سواء ، بل يزعمون أنهم أحياء في قبورهم حياة مادية بدنية يأكلون فيها ويشربون ، ويسمعون كلام من يدعوهم ويستغيث بهم ، ويستغيثون بهم ، ويستجيبون دعاءهم فيها ، وقد يخرجون من قبورهم فيقضون حوائجهم في خارجها ، يخالفون بهذه الدعاوى مئات من آيات القرآن المحكمات في التوحيد وصفات الربوبية ، وفي صفات الأنبياء وكونهم بشرا لا يقدرون على شيء مما لا يقدر عليه البشر ، وأن النبوة والرسالة وآياتها ليست من كسبهم ، ويتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله فيما ورد فيه من بعض أنباء الغيب في حياة الشهداء البرزخية ، فيقيسون عليها بأهوائهم حياة أوليائهم رجما بالغيب وافتراء على الله ، وحسبنا هنا التذكير بما أمر الله نبينا أن يرد به على الذين سألوه بعض الآيات الكونية : - قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا - 17 : 93 ؟

التالي السابق


الخدمات العلمية