صفحة جزء
( المسألة الرابعة : التقليد ) :

المراد منه اتباع بعض الناس لمن يعظمه أو يثق به أو يحسن به الظن فيما لا يعرف أحق هو أم باطل ، وخير هو أم شر ، ومصلحة أم مفسدة ، وأصل التقليد في اللغة تحلية المرأة بالقلادة ، أو الرجل بالسيف ، أو الهدي بما يعرف به ( وهو بالفتح ما يهديه مريد النسك إلى الحرم من الأنعام ) وتقليده : أن يعلق عليه جلدة أو غيرها ليعرف أنه هدي فلا يتعرض له ، ومنه تقليد الولايات والمناصب ، يقال : قلده السيف أو العمل فتقلده ، وقولهم : قلد فلان الإمام الشافعي مثلا . معناه : جعل رأيه وظنه الاجتهادي في الدين قلادة له ، والأصل أن يقال : تقلد مذهب الشافعي . وعرف الفقهاء التقليد بأنه العمل بقول من لا يعرف دليله ، وقد نهى الأئمة المعروفون الناس عن تقليدهم في دينهم ، وقالوا : لا يجوز لأحد أن يتبع أحدا إلا فيما عرف دليله وظهر له أنه حق ، فالعالم مبين للحكم لا شارع له ، والتقليد بهذا المعنى شأن الطفل مع والديه والتلميذ مع أستاذه ، وهو لا يليق بالراشد المستقل ، ولكن المرءوسين مع الرؤساء ، والعامة مع الزعماء والأمراء ، كالأطفال مع الأمراء المستبدين ، وأما تلقي النصوص القطعية والسنن العملية عن ناقليها فهو ليس بتقليدهم ، وكذا أخذ الفنون والصناعات عن متقنيها . وأما تشبه الشرقيين بالإفرنج فيما لا باعث عليه إلا تعظيمهم لأنهم أقوى منهم ولا سيما أزياء النساء والعادات فكله من التقليد الضار ، الدال على الصغار .

ولما كان الإسلام دين الرشد والاستقلال ، أنكر على العقلاء البالغين المكلفين جمود التقليد على ما كان عليه آباؤهم من أمر دينهم ودنياهم ، لا لأجل أن يقلدوا آخرين من أهل [ ص: 183 ] عصرهم ويسنوا لمن بعدهم تقليدهم ، بل ليكونوا مستقلين في طلب الحقائق من أدلتها ، وعلله بقوله - تعالى - : - أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون - 5 : 104 على ما بيناه في مواضع من هذا التفسير متفرقة ، ثم في كتاب ( الوحي المحمدي ) مجتمعة .

وفي قصص هذه السورة من حكاية هذا التقليد عن ثمود : - قالوا ياصالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا - 62 وعن مدين : - قالوا ياشعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء - 87 ؟ .

ومن عجائب الجهل بالقرآن أن يعود الخلق الكثير من مدعي اتباع القرآن إلى التقليد - لا تقليد أئمة العلم المتقدمين الذين نهوهم عن التقليد اتباعا للقرآن - بل تقليد آبائهم وشيوخهم المتأخرين المقلدين ، حتى فيما ابتدعوا أو قلدوا أهل الملل من عبادة غير الله بدعاء غير الله والنذر لغير الله ، وشرع ما لم يأذن به الله ، ولئن سألتهم ليقولن ليس هذا بعبادة لغير الله ، بل توسل إلى الله وتقرب إليه ؟ ! فإن قلت لهم : إن هذا ما كان يقوله المشركون الذين قاتلهم لأجله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آل أمرهم إلى الاستدلال على الشيء بنفسه وهو تقليدهم لمن يفعل فعلهم أو يقره من مشايخ الأزهر ومشايخ الطرق ، فإن قلت لهم : إن هؤلاء مخالفون لنصوص الكتاب والسنة وللأئمة الذين يدعون اتباعهم ؟ قالوا : إنهم أعلم منا بما كان عليه الأئمة المختصون بفهم الكتاب والسنة . فما أضيع البرهان عند المقلد . ولو كان التقليد حجة مقبولة عند الله لقبلها من مقلدي جميع الأمم والملل فإنه هو الحكم العدل ، لا يظلم ولا يحابي بعض عباده على بعض .

التالي السابق


الخدمات العلمية