صفحة جزء
( نهي أولي الأحلام عن الفساد يحفظ الأمة من الهلاك ) :

( الشاهد الثامن ) قوله - تعالى - : فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض 116 جاءت هذه الآية بعد بيان إهلاك الأمم بظلمهم وإفسادهم في الأرض ؛ للإعلام بأنه لو كان فيهم جماعات وأحزاب أولوا بقية من الأحلام والفضائل والقوة في الحق ينهونهم عن ذلك لما فشا فيهم ، وأفسدهم وإذن لما هلكوا ، فإن الصالحين المصلحين في الأرض هم الذين يحفظ الله بهم الأمم من الهلاك ما داموا يطاعون فيها بحسب سنة الله ، كما أن الأطباء هم الذين يحفظ الله بهم الأمم من فشو الأمراض والأوبئة فيها ، ما دامت الجماهير تطيعهم فيما يأمرون به من أسباب الوقاية قبل حدوث المرض ، ومن وسائل العلاج والتداوي بعده ، فإذا لم يمتثل الجمهور لأمرهم ونهيهم فعل الفساد فعله فيهم ، وقد فهم الوعاظ والفقهاء من خلفنا الجاهل ما كان يفهمه السلف الصالح من بركة الصالحين المتقدمين وحفظ الله الأمم بهم ، فظنوا أن المراد بهم الذين يكثرون من الصيام والقيام وقراءة الأوراد والأحزاب ، كما قال الشاعر ، وضرب الشيخ أحمد بن حجر الهيتمي المثل بقوله في الزواجر :


لولا أناس لهم ورد يقومونا وآخرون لهم سرد يصومونا     لدكدكت أرضكم من تحتكم سحرا
فإنكم قوم سوء لا تطيعونا



[ ص: 202 ] كلا ، إن من أصحاب الأوراد من يقوم ليله بورد من تشريع مبتدع هو به عاص لله - تعالى - لعبادته بغير ما شرعه ، فكان ممن قال فيهم : أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ولولا كلمة الفصل لقضي بينهم 42 : 21 أي بهلاكهم . وفي الحديث : ( ( رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع ، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر ) ) كم من مصل هو مصداق لحديث : ( ( من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعدا ) ) وكذلك كان دراويش مهدي السودان ، وأمثالهم من المسلمين الجاهلين لهداية القرآن ، فنكل بهم الإفرنج بمساعدة الفاسقين من المسلمين واستولوا على بلادهم . وقد علمنا من أخبار هذا المهدي أنه كان على علم وبصيرة في صلاحه ، ولكن قواده لم يكونوا بعده مثله ، وصلاح دراويشه لا بصيرة فيه ولا علم .

كلا إن المراد بالصالحين الذين يحفظ الله بهم الأمم هم الذين قال الله فيهم : ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون 21 : 105 وهم المتقون الذين قال فيهم : إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين 7 : 128 وقال : وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم 24 : 55 الآية ، وقد تقدم الكلام فيهم قريبا ، وإن الله لا يحفظ الأمم بذواتهم وبركة أجسادهم ، ولا بعباداتهم الشخصية القاصر نفعها عليهم ، بل بأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر وطاعة الأمة لهم .

نعم إن الله لا يهلك الأمة كلها بعذاب الاستئصال مادام فيها جماعة من الصالحين ، ولكنه يعذبها بذنوبها فيما عدا ذلك مما فصلناه في علاوة قصة الطوفان الرابعة .

التالي السابق


الخدمات العلمية