صفحة جزء
[ ص: 250 ] ( ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون ) .

( سيرة يوسف - عليه السلام - في السجن ) :

هذه الآيات الثلاث في إظهار معجزة النبوة ، والتمهيد لدعوة الرسالة .

( ودخل معه السجن فتيان ) هذا عطف على مفهوم ما قبله ، أي فسجنوه ودخل معه السجن بتقدير الله الخفي الذي يعبر عنه جاهلوه بالمصادفة والاتفاق : فتيان مملوكان ، تبين فيما بعد أنهما من فتيان ملك مصر .

روي عن ابن عباس أن أحدهما خازن طعامه والآخر ساقيه ، فماذا كان من شأنه معهما ؟ قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا أي رأيت في المنام رؤيا واضحة جلية كأني أراها في اليقظة الآن وهي أنني أعصر خمرا ، أي عنبا ليكون خمرا لا ليشرب الآن ، وقراءة ابن مسعود وأبي في الشواذ ( ( أعصر عنبا ) ) تفسير لا قرآن ، وما كل العنب لأجل التخمير ، فما نقل من أن عرب غسان وعمان يسمون العنب خمرا ، فمحمول على هذا النوع المخصوص منه لكثرة مائه وسرعة اختماره ، دون ما يؤكل في الغالب تفكها لكبر حجمه واكتناز شحمه وقلة مائه ، ولكل منهما أصناف ( وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه ) الطير جمع واحده طائر ، وتأنيثه أكثر من تذكيره ، [ ص: 251 ] وجمع الجمع : طيور وأطيار ( نبئنا بتأويله ) أي قال له كل واحد منهما : نبئني بتأويل ما رأيت ، أي بتفسيره الذي يئول إليه في الخارج إذا كان حقا لا من أضغاث الأحلام ، ويصح إعادة الضمير المفرد على الكثير كاسم الإشارة بمعنى المذكور أو ما ذكر ومنه قول الراجز :


فيها خطوط من سواد وبلق كأنه في الجسم توليع البهق



( إنا نراك من المحسنين ) عللوا سؤالهم عن أمر يهمهم ويعنيهم دونه ، برؤيتهم إياه من المحسنين - بمقتضى غريزتهم - الذين يريدون الخير والنفع للناس ، وإن لم يكن لهم فيه منفعة خاصة ولا هوى ، وقيل : ( ( من المحسنين ) ) لتأويل الرؤى ، وما قالا هذا القول إلا بعد أن رأيا من سعة علمه وحسن سيرته مع أهل السجن ما وجه إليه وجوههما ، وعلق به أملهما . وهذا من إيجاز القرآن الخاص به .

افترض يوسف - عليه السلام - ثقة هذين السائلين بعلمه وفضله ، وإصغاءهما لقوله واهتمامهما بما يسمعان من تأويله لرؤاهما ، فبدأ حديثه بما هو أهم عنده وهو دعوتهما وسائر من في السجن إلى توحيد الله - عز وجل - فعلم من هذا أن وحي الرسالة جاءه بعد دخول السجن فحقق قوله : ( رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه ) 33 كما أن وحي الإلهام جاءه عند إلقائه في غيابة الجب على ما سبق ، وحكمة هذا من ناحيته - عليه السلام - ظاهرة بما بيناه من أن الله - تعالى - جعل له في كل محنة ظاهرة ، منحة باطنة ، وفي كل بداية محرقة ، نهاية مشرقة ، تحقيقا لما فهمه أبوه من اجتباء ربه له إلخ . وحكمته من ناحية دعوة الدين أن أقوى الناس وأقربهم استعدادا لفهمها والاهتداء بها هم : الضعفاء والمظلومون والفقراء . وأعتاهم وأبعدهم عن قبولها هم : المترفون والمتكبرون ، بدأ يوسف بالدعوة بعد مقدمة في بيان الآية الدالة على صدقه والثقة بقوله ، وهي إظهار ما من الله به عليه من تعليمه ما شاء من أمور الغيب ، وأقربها إلى اقتناعهم ما يختص بمعيشتهم ، فكان هذا ما يقتضيه المقام وتوجبه الرسالة من جوابهم ، وهو :

( قال لا يأتيكما طعام ترزقانه ) وهو مالا تدرون ، وإني وإياكم في هذا السجن لمحجوبون ( إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ) أي أخبرتكما به وهو عند أهله ، وبما يريدون من إرساله وما ينتهي إليه بعد وصوله إليكما : أنبئكما بكل هذا من شأن هذا الطعام قبل أن يأتيكما .

روي أن رجال الدولة كانوا يرسلون إلى المجرمين أو المتهمين طعاما مسموما يقتلونهم به ، وأن يوسف أراد هذا ، وما قلته يشمل هذا إذا صح ، وهو ما يفهم من تسمية إنبائهما به تأويلا ، فإن التأويل الإخبار بما يئول إليه الشيء ، [ ص: 252 ] وهو فرع معرفته ، ولذلك قال بعضهم : إنه سماه تأويلا من باب المشاكلة لما سألاه عنه من تأويل رؤياهما ، وقال بعضهم : إن المراد : لا تريان في النوم طعاما يأتيكما إلا نبأتكما بتأويله ، وهو بعيد . وفسر الزمخشري ومن قلده ( ( تأويله ) ) ( ببيان ما هيئته وكيفيته ، لأن ذلك يشبه تفسير المشكل والإعراب عن معناه ) ا هـ . وهو تكلف سرى إليه من مفهوم التأويل في اصطلاح علماء الكلام وأصول الفقه لا من صميم اللغة ( ذلكما مما علمني ربي ) أي ذلك الذي أنبئكما به بعض ما علمني ربي بوحي منه إلي ، لا بكهانة ولا عرافة ولا تنجيم ، ولا ما يشبهها من طرق صناعية أو تعليم بشري يلتبس به الحق بالباطل ، ويشتبه الصواب بالخطأ ، فهو آية ، كقول عيسى لبني إسرائيل من بعده : ( وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم ) 3 : 49 .

( إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله ) خالق السموات والأرض وما بينهما كما يجب له من التوحيد والتنزيه ، أي : تركت دخولها واتباع أهلها من عابدي الأوثان المنتحلة على كثرة أهلها ودعوتهم إليها ، وليس المعنى أنه كان متبعا لها ثم تركها ، فقوله - تعالى - : ( أيحسب الإنسان أن يترك سدى ) 75 : 36 ؟ أي بعد موته فلا يبعث ، ليس معناه أنه كان سدى قبله ، فترك الشيء يصدق بعدم ملابسته مطلقا ، وبالتحول عنه بعد التلبس به ، ويفرق بينهما بقرينة الحال أو المقال أو كليهما كما هنا .

والمتبادر أنه أراد بهؤلاء القوم : الكنعانيين وغيرهم من سكان أرض الميعاد التي نشأ فيها ، والمصريين الذين هو فيهم وبينهم ، فإنهم اتخذوا من دون الله آلهة معروفة في التاريخ ، أعظمها الشمس واسمها عندهم ( رع ) ومنها فراعنتهم والنيل وعجلهم ( أبيس ) وإنما كان التوحيد خاصا بحكمائهم وعلمائهم ( وهم بالآخرة هم كافرون ) أي وهم الآن يكفرون بالمعنى الصحيح للآخرة ، فإن المصريين وإن كانوا يؤمنون بالآخرة والحساب والجزاء الذي دعا إليه الأنبياء ، إلا أنه فشا فيهم تصوير هذا الإيمان بصور مبتدعة ، ومنها أن فراعنتهم يعودون إلى الحياة الأخرى بأجسادهم المحنطة ويعود لهم السلطان والحكم ، ولهذا كانوا يدفنون أو يضعون معهم جواهرهم وغيرها ، ويبنون الأهرام لحفظ جثثهم وما معها ، ولعله لهذا أكد الحكم بالكفر بها بإعادة الضمير ( ( هم ) ) ليبين أن إيمانهم بالآخرة على غير الوجه الذي جاءت به الرسل فهو غير صحيح .

( واتبعت ملة آبائي ) أنبياء الله الذين دعوا إلى توحيده الخالص ، وبين أسماءهم من الأب الأعلى إلى الأدنى بقوله : ( إبراهيم وإسحاق ويعقوب ) فلفظ الآباء يشمل الجدود وإن علوا ، وبين أساس ملتهم التي اتبعها وراثة وتلقينا فكانت يقينا له ولهم ووجدانا ، بقوله ما كان لنا أي ما كان من شأننا معشر الأنبياء ، ولا مما يقع منا [ ص: 253 ] ( أن نشرك بالله من شيء ) نتخذه ربا مدبرا أو إلها معبودا معه ، لا من الملائكة ولا من البشر ( كالفراعنة ) فضلا عما دونهما من البقر ( كالعجل أبيس ) أو من الشمس والقمر ، أو ما يتخذه لهذه الآلهة من التماثيل والصور ( ذلك من فضل الله علينا ) بهدايتنا إلى معرفته وتوحيده في ربوبيته وألوهيته بوحيه وآياته في خلقه وعلى الناس بإرسالنا إليهم ننشر فيهم دعوته ، ونقيم عليهم حجته ، ونبين لهم هدايته ( ولكن أكثر الناس لا يشكرون ) نعم الله عليهم ، فهم يشركون به أربابا وآلهة من خلقه ، يذلون أنفسهم بعبادتهم ، وهم مخلوقون لله مثلهم أو أدنى منهم ، ثم صرح لهما ببطلان ما هما عليه من الشرك ونبههم إلى برهان التوحيد فقال :

التالي السابق


الخدمات العلمية