صفحة جزء
[ ص: 345 ] ( حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين فإن خفتم فرجالا أو ركبانا فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون ) .

كانت الآيات السابقة أحكاما بعضها في العبادات ، وبعضها في الحدود والمعاملات ، آخرها معاملة الأزواج ، ورأينا من سنة القرآن أن يختم كل حكم أو عدة أحكام بذكر الله تعالى والأمر بتقواه ، والتذكير بعلمه بحال العبد وبما أعد له من الجزاء على عمله ، وفي هذا ما فيه من نفخ روح الدين في الأعمال وإشرابها حقيقة الإخلاص ، ولكن هذا التذكير القولي بما يبعث على إقامة تلك الأحكام على وجهها قد يغفل المرء عن تدبره ، ويغيب عن الذهن تذكره ، بانهماك الناس في معايشهم واشتغالهم بما يكافحون من شدائد الدنيا ، أو ما يلذ لهم من نعيمها ، ولهذه الضروب من المكافحات ، والفنون من التمتع باللذات سلطان قاهر على النفس ، وحاكم مسخر للعقل والحس ، ينتكب بالمرء سبيل الهدى ، حتى تتفرق به سبل الهوى ، فمن ثم كان المكلف محتاجا في تأديب الشهوات الحيوانية ، إلى مذكر يذكره بمكانته الروحانية التي هي كمال حقيقته الإنسانية ، وهذا المذكر هو الصلاة ، فهي التي تخلع الإنسان من تلك الشواغل التي لا بد له منها ، وتوجهه إلى ربه جل وعلا ، فتكثر له مراقبته ، حتى تعلو بذلك همته ، وتزكو نفسه ، فتترفع عن البغي والعدوان ، وتتنزه عن دناءة الفسق والعصيان ، ويحبب إليها العدل والإحسان ، بل ترتقي في معارج الفضل إلى مستوى الامتنان فتكون جديرة بإقامة تلك الحدود ، وزيادة ما يحب الله تعالى من الكرم والجود ، ذلك أن الصلاة تنهى بإقامتها على وجهها عن الفحشاء والمنكر ، ولذكر الله فيها أعظم من جميع المؤثرات وأكبر ، فإذا كان الإنسان قد خلق هلوعا ، إذا مسه الشر جزوعا ، وإذا مسه الخير منوعا ، فقد استثنى الله تعالى من هذا الحكم الكلي المصلين ، إذا كانوا على الصلاة الحقيقية محافظين .

لهذا قال :

( حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين ) قال بعض المفسرين في وجه اختيار لفظ المحافظة على الحفظ : إن الصيغة على أصلها تفيد المشاركة في الحفظ وهي هنا بين العبد وربه ، كأنه قيل : احفظ الصلاة يحفظك الله الذي أمرك بها ، كقوله : ( فاذكروني أذكركم ) [ ص: 346 ] ( 2 : 152 ) أو بين المصلي والصلاة نفسها; أي : احفظوها تحفظكم من الفحشاء والمنكر بتنزيه نفوسكم عنهما ، ومن البلاء والمحن بتقوية نفوسكم عليهما كما قال : ( واستعينوا بالصبر والصلاة ) ( 2 : 45 ) .

وقال الأستاذ الإمام : قال : ( حافظوا على الصلوات ) ولم يقل : احفظوها; لأن المفاعلة تدل على المنازعة والمقاومة ، ولا يظهر قول بعضهم : إن المفاعلة للمشاركة; لأن الصلاة تحفظه كما يحفظها ، إلا لو كانت العبارة حافظوا الصلوات ، ولكنه قال : ( على الصلوات ) أي : اجتهدوا في حفظها والمداومة عليها اهـ . ولا يريد الأستاذ بهذا أن الصلاة لا تحفظ مما ذكر ، وإنما يريد أن لفظ ( حافظوا ) لا يدل على هذا المعنى الثابت في نفسه ، والذي أفهمه في المفاعلة في الشيء هو فعله المرة بعد المرة ، ومنه حافظ عليه ، وواظب عليه ، ودوام عليه ، إلا إذا كانت ( على ) للتعليل كقاتله على الأمر; أي : لأجله ، فالمقاتلة فيه للمشاركة ولا يصح هنا ، وحفظ الصلاة المرة بعد المرة على الاستمرار عبارة عن الإتيان بها كل مرة كاملة الشرائط والأركان العملية ، كاملة الآداب والمعاني القلبية ، فالشيء الذي يتعاهد بالحفظ دائما هو الذي لا يلحقه النقص وإلا لم يكن محفوظا دائما .

والصلوات هي الخمس المعروفة ببيان من بين للناس ما نزل إليهم ، ونقلت عنه بالتواتر العملي ، وأجمع عليها المسلمون من جميع الفرق ، فهم على تفرقهم في كثير من المسائل متفقون على أن جاحد صلاة من الخمس لا يعد مسلما ، على أنهم استنبطوا كونها خمسا من ذكر الوسطى في الجمع كما في تفسير الرازي . قال الأستاذ الإمام : وهو من قبيل التماس النكتة ، ومن آيات أخرى كقوله تعالى : ( فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون ) ( 30 : 17 ، 18 ) وسيأتي بيان كل شيء في محله إن شاء الله تعالى ، وكانوا يعبرون عن الصلاة بالتسبيح ، ويقولون : سبح الغداة مثلا; أي صلى الفجر .

والصلاة الوسطى هي إحدى الخمس ، والوسطى مؤنث الأوسط ، ويستعمل بمعنى المتوسط بين شيئين أو أشياء لها طرفان متساويان ، وبمعنى الأفضل ، وبكل من المعنيين قال قائلون; ولذلك اختلفوا في أي الصلوات أفضل وأيتها المتوسطة ؟ وللعلماء في ذلك ثمانية عشر قولا أوردها الشوكاني في ( نيل الأوطار ) أصحها رواية ما ذهب إليه الجمهور من كونها صلاة العصر لحديث علي عند أحمد ومسلم وأبي داود مرفوعا ( ( شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ) ) ورواه أحمد والشيخان عنه بلفظ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يوم الأحزاب : ( ( ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارا كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس ) ) ولم يذكر العصر ، ولذلك قال بعضهم : إنها الظهر لأنه شغل يوم الأحزاب عنها وعن العصر جميعا وهي متوسطة ، وكانت تشق عليهم; لأنها تؤدى في وقت الحر والعمل ، وفي رواية عن علي عند [ ص: 347 ] عبد الله بن أحمد في مسند أبيه ( ( كنا نعدها الفجر فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : هي صلاة العصر ) ) ووجه ما رواه أولا توسطها وقوله تعالى في سورة الإسراء : ( أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا ) ( 17 : 78 ) فقد أشار في الآية إلى الصلوات ، وجعل لصلاة الفجر مزية خاصة بها، وهي كون قرآنها مشهودا ، وورد في معناه أنها تشهدها ملائكة الليل وملائكة النهار ، وفي الحديث التصريح بأن صلاة العصر تشارك صلاة الفجر بهذه المزية ، ولأصحاب الأقوال الأخرى في تعيين الصلاة الوسطى أحاديث لا تصل إلى درجة ما ورد في صلاة العصر ، فقيل : هي الفجر ، وقيل : هي الظهر كما مر ، وقيل : هي المغرب . وقال الأخفش : هي صلاة الجمعة ، وقال بعضهم : إنها غير معروفة ، وإن الله تعالى أبهم الصلاة الفضلى التي ثوابها أكثر لنحافظ على كل صلاة .

قال الأستاذ الإمام : ولولا أنهم اتفقوا على أنها إحدى الخمس لكان يتبادر إلى فهمي من قوله : ( والصلاة الوسطى ) أن المراد بالصلاة الفعل ، وبالوسطى الفضلى; أي : حافظوا على أفضل أنواع الصلاة; وهي الصلاة التي يحضر فيها القلب وتتوجه بها النفس إلى الله تعالى وتخشع لذكره وتدبر كلامه ، لا صلاة المرائين ولا الغافلين .

ويقوي هذا قوله بعدها : ( وقوموا لله قانتين ) فهو بيان لمعنى الفضل في الفضلى وتأكيد له ، إذ قالوا : إن في القنوت معنى المداومة على الضراعة والخشوع; أي : قوموا ملتزمين لخشية الله تعالى واستشعار هيبته وعظمته ، ولا تكمل الصلاة وتكون حقيقية ينشأ عنها ما ذكر الله تعالى من فائدتها إلا بهذا ، وهو يتوقف على التفرغ من كل فكر وعمل يشغل عن حضور القلب في الصلاة وخشوعه ، لما فيها من ذكر الله بقدر الطاقة .

أقول : إنه ليس عندنا نص صريح في الحديث المرفوع ينافي ما ذكره الأستاذ الإمام في الصلاة الوسطى ، فقد قال بعض المحدثين : إن لفظ ( ( صلاة العصر ) ) في حديث علي مدرج من تفسير الراوي . قالوا : ولولا ذلك لما اختلف الصحابة فيها ، وأيدوا ذلك ببعض الروايات كرواية مسلم : ( ( شغلونا عن الصلاة حتى غربت الشمس; يعني صلاة العصر ) ) وما قاله في القنوت هو لباب الأقوال الكثيرة التي أوصلها ابن العربي إلى عشرة ، نظمها في قوله :


ولفظ القنوت اعدد معانيه تجد مزيدا على عشر معاني مرضية     دعاء ، خشوع ، والعبادة
، طاعة إقامتها إقرارنا بالعبودية     سكوت ، صلاة ، والقيام ، وطوله
كذاك دوام الطاعة الرابح النية

وقد روى أحمد والشيخان وأصحاب السنن ما عدا ابن ماجه من حديث زيد بن أرقم قال : ( ( كنا نتكلم في الصلاة يكلم الرجل منا صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة حتى نزلت [ ص: 348 ] ( وقوموا لله قانتين ) فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام ) ) وذلك أن القنوت عبارة عن الانصراف عن شئون الدنيا إلى مناجاة الله تعالى والتوجه إليه لدعائه وذكره ، وحديث الناس مناف له ، فيلزم من القنوت تركه ، ويدل على ذلك حديث ابن مسعود المتفق عليه قال : ( ( كنا نسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في الصلاة فيرد علينا ، فلما رجعنا من عند النجاشي سلمنا عليه فلم يرد ، فقلنا - أي بعد الصلاة - يا رسول الله كنا نسلم عليك في الصلاة فترد علينا فقال : إن في الصلاة شغلا ) ) وقال سعيد بن المسيب : المراد بالقنوت هنا القنوت المعروف في صلاة الصبح وهو إن صح يرجح أنها الصلاة الوسطى .

المحافظة على الصلوات آية الإيمان الكبرى ، وقد جعل الشرع الصلاة والزكاة شرطا لصحة الإسلام وأخوة الدين وما له من الحقوق ، قال تعالى في أوائل سورة التوبة في الكلام على المشركين المعتدين : ( فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ) ( 9 : 11 ) والأحاديث في منطوق الآية ومفهومها كثيرة ، منها حديث ابن عمر عند أحمد والبخاري ومسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله عز وجل ) ) والمراد بالناس هنا المشركون أهل الأوثان لا أهل الكتاب الذين تقبل منهم الجزية ومن في حكمهم كالمجوس ، ذلك أنهم هم الذين كانوا يقاومون دعوة الإسلام ما لا يقاومها سواهم ، وكان استقرار الدين من غير دخول مشركي جزيرة العرب في الإسلام ضربا من المحال ، والكلام هنا في مكانة الصلاة من الإسلام لا في الدعوة وحمايتها . وروى أحمد ومسلم في صحيحه وأبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث جابر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( ( بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة ) ) وروى أحمد وأصحاب السنن الأربعة وابن حبان والحاكم من حديث بريدة قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( ( العهد الذي بيننا وبينكم الصلاة ، فمن تركها فقد كفر ) ) صححه النسائي والعراقي ، وروى أحمد والطبراني في الكبير والأوسط من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ذكر الصلاة يوما فقال : ( ( من حافظ عليها كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة ، ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نورا ولا برهانا ولا نجاة ، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف ) ) وفي الآثار ما يشعر بأن الصحابة كانوا متفقين على ذلك; فقد روى الترمذي والحاكم - وقال صحيح على شرط الشيخين - عن عبد الله بن شقيق العقيلي قال : ( ( كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة ) ) .

أرأيت هذه الآيات العزيزة ، والأحاديث الناطقة بالعزيمة ، قد نال التأويل منها نيله في [ ص: 349 ] الزمن الماضي ، وأعرض جماهير المسلمين عنها في الزمن الحاضر ، حتى كثر التاركون الغافلون والمارقون ، وقل عدد المصلين الساهين وندر المصلون المحافظون ؟ ذلك أن الإسلام عند هؤلاء المسلمين ، الذين يصفون أنفسهم بالمتمدنين قد خرج عن كونه عقيدة دينية ، إلى كونه جنسية سياسية ، آية الاستمساك به والمحافظة عليه والدفاع عنه مدح كبراء حكامه وإن كانوا لا يقيمون حدوده ولا ينفذون أحكامه ، بل رفعوا أنفسهم إلى مرتبة التشريع العام ، واستبدال القوانين الوضعية بما نزل الله من الأحكام ، فلا غرو أن يعد الذي يلغو بمدح دولته أو بذم عدو لها من أكبر أنصار الإسلام ، وإن كان لا يعرف حقيقة عقيدته ولا يقيم الصلاة ولا يؤتي الزكاة ، ولا يحفل بغير ذلك مما أنزل الله ، ولا يشترط أن يكون مخلصا في دفاعه يتحرى به وجه المنفعة العامة لا تتبع طرق المال والجاه ، أرأيت هؤلاء المسلمين سياسة ؟ وإن أحدهم لتتلى عليه تلك الآيات والأحاديث فيصر مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا ، فمنهم من يصده عنها عدم إيمانه بها وهو الذي قد يصف نفسه أو يصفه أقرانه ( ( بالمتمدن والمتنور ) ) ومنهم من يصدف به عنها الاتكال على شفاعة الشافعين ، والغرور بالانتساب إلى الإسلام ، والاعتقاد بأن النسبة إليه كافية في نيل سعادة الآخرة وعدم المؤاخذة فيها على شيء ، ولا سيما الذي يسمي نفسه ( ( محسوبا على أحد الصالحين ) ) وهذا اعتقاد أكثر العامة ، ولهم من مشايخ الطرق وغيرهم ما يمدهم في غيهم ويستدرجهم في غرورهم ، وما أعظم غرور من يأخذ منهم العهد ويحافظ على الورد .

نعم إن للإسلام دولة وإن كان هو في نفسه دينا لا جنسية ، ووظيفة دولته أو حكومته إنما هي نشر دعوته ، وحفظ عقائده وآدابه ، وإقامة فرائضه وسننه ، وتنفيذ أحكامه في داره ، فمن ينصر حكومة الإسلام فإنما ينصرها بمساعدتها على ذلك بالعمل به في نفسه ، وبحمل غيره من حاكم ومحكوم عليه; لأنه هو المقوم والمعزز للأمة ، وإنما الدولة بالأمة .

وإن إقام الصلاة وإيتاء الزكاة هما أعظم شعائر الإسلام ، فالصلاة هي الركن الركين لصلاح النفوس ، والزكاة هي الركن الركين لصلاح الاجتماع ، فإذا هدما فلا إسلام في الدولة .

ماذا كان من أثر ترك الصلاة والتهاون بالدين في المدن والقرى والمزارع ؟ كان من أثره في المدن فشو الفواحش والمنكرات ، تجد حانات الخمر ومواخير الفجور والرقص وبيوت القمار غاصة بخاصة الناس وعامتهم حتى في ليالي رمضان ، ليالي الذكر والقرآن ، وعبد الناس المال ، لا يبالون أجاء من حرام أم من حلال ، وانقبضت الأيدي عن أعمال الخير ، وانبسطت في أفعال الشر ، وزال التعاطف والتراحم ، وقلت الثقة من أفراد الأمة بعضهم ببعض ، فلا يكاد يثق المسلم إلا بالأجنبي ، وغير ذلك من فساد الأخلاق وقبح الفعال في الأفراد ، وأكبر من ذلك انحلال الروابط الملية ، بل تقطع أكثرها ، حتى كادت الأمة تخرج عن [ ص: 350 ] كونها أمة حقيقية متكافلة بالمصالح الاجتماعية والتعاون على الأعمال المشتركة التي تحفظ وحدتها ، وطفق بعض هؤلاء ( ( المتمدنين ) ) الذين قطعوا روابطها بأيديهم ، يفكرون في جعل الرابطة الوطنية لأهل كل قطر بدلا من الرابطة الملية الجامعة لأهل الأقطار الكثيرة ، فلم يفلحوا ، ولكن أثر كلامهم أردأ التأثير في مصر ; فالأمة الآن في دور الانسلاخ عما كانت به أمة بسيرة سلفها الصالحين ، فتنكبها هؤلاء الذين قال الله فيهم : ( فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا ) ( 19 : 59 ) وهذا الانسلاخ هو الغي الذي توعدهم الله تعالى به في الدنيا .

وأما أثر ذلك في القرى والمزارع فاستحلال جماهير الفلاحين لإهلاك الحرث والنسل عملا لا قولا ، وذلك باعتداء بعضهم على زرع بعض بالقلع قبل ظهور الثمرة وبالسرقة بعدها ، وعلى بهائمه بالقتل بالسم أو السلاح ، بل باعتدائهم على أنفسهم بالسلب والنهب والقتل ، حتى أعيا ذلك الحكومة على اهتمامها بأمرهم ، فبلاد الأرياف المصرية لا أمن فيها على النفس والمال بتأمين الحكومة; لأنها صارت كالبوادي التي ليس فيها حكام ، لا يعتمد أحد على غير نفسه وعصبته في حفظ نفسه وحقيقته ، ولو حافظ هؤلاء وأولئك على الصلوات كما أمر الله تعالى لانتهوا عن الفحشاء والمنكر بالوازع النفسي ، فإن الصلاة كما يقول مختار باشا الغازي ، كالبوليس ( المحتسب ) الملازم يمنع من عمل السوء ، وأنى يحافظون عليها ومنهم الذي كفر بالله تقليدا ، ومنهم الذي آمن تقليدا بما وجد عليه آباءه ، وهو أن مرضاة الله تعالى بالنجاة من عذابه والفوز بنعيم الآخرة عنده لا تحصل إلا بواسطة أحد الأولياء الميتين وإنما يتوسطون لمن يحتفل بموالدهم ، أو يسيب لهم السوائب من البقر وغير البقر ، ويقدم لأضرحتهم الهدايا والنذور ، ومنهم الذي يتعلم كيفية أقوال الصلاة وأعمالها البدنية يؤدونها وهم عن الله ساهون ، يراءون الناس ويمنعون الماعون ، وهؤلاء هم الذين قال الله تعالى فيهم : ( فويل للمصلين ) ( 107 : 4 ) وإنما المحافظون على الصلاة هم الذين قال فيهم : ( قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون ) ( 23 : 1 ، 2 ) إلخ الآيات .

المحافظ على هذه الصلاة الفضلى ينتهي عن الفحشاء والمنكر ، فلا يرضى لنفسه أن يكون حلسا من أحلاس بيوت القمار ومعاهد اللهو والفسق .

المحافظ على هذه الصلاة لا يمنع الماعون ، بل يبذل معونته ورفده لمن يراه مستحقا لهما .

المحافظ على هذه الصلاة لا يخلف ولا يلوي في حق غيره عليه ، وإن كان حقا فرضه على نفسه ، أو التزمه برا بغيره ، كالاشتراك في الجمعيات الخيرية .

المحافظ على هذه الصلاة لا يضيع حقوق أهله وعياله ، ولا حقوق أقاربه وجيرانه ، ولا حقوق معامليه وإخوانه .

[ ص: 351 ] المحافظ على هذه الصلاة يعظم الحق وأهله ، ويحتقر الباطل وجنده ، فلا يرضى لنفسه ولا لأمته بالذل والهوان ، ولا يغتر بأهل البغي والعدوان .

المحافظ على هذه الصلاة لا تجزعه النوائب ، ولا تفل غرار عزمه المصائب ، ولا تبطره النعم ، ولا تقطع رجاءه النقم ، ولا تعبث به الخرافات والأوهام ، ولا تطير به رياح الأماني والأحلام ، فهو الإنسان الكامل الذي يؤمن شره ، ويرجى في الناس خيره ، ولو أن فينا طائفة من المصلين الخاشعين لأقمنا بهم الحجة على المارقين والمرتابين .

ولكن المحافظ على الصلوات والصلاة الوسطى مع القنوت والخشوع قد صار أندر من الكبريت الأحمر ، ومن عرفه لا يصدق أن للصلاة يدا في آدابه العالية ، واستقامته في السر والعلانية ، وكأني ببعض القارئين لما تقدم وقد ملوا منه ، ورموا الكاتب بالغلو فيه : ( أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم ) ( 47 : 24 ، 25 ) .

ثم قال تعالى : ( فإن خفتم فرجالا أو ركبانا ) أي : فإن خفتم أن تقوموا لله فيها قانتين مجتمعين فيفتنكم الأعداء بهجومهم عليكم ، أو إن خفتم أي خطر أو ضرر من قيامكم قانتين فصلوا كيفما تيسر لكم راجلين أو راكبين ، فالرجال جمع راجل وهو الماشي ، والركبان جمع راكب .

قال الأستاذ الإمام : هذا تأكيد للمحافظة ، وبيان أن الصلاة لا تسقط بحال ; لأن حال الخوف على النفس ، أو العرض ، أو المال هو مظنة العذر في الترك ، كما يكون السفر عذرا في ترك الصيام ، وكالأعذار الكثيرة لترك صلاة الجمعة ، واستبدال صلاة الظهر بها ، والسبب في عدم سقوط الصلاة عن المكلف بحال أنها عمل قلبي ، وإنما فرضت فيها تلك الأعمال الظاهرة لأنها مساعدة على العمل القلبي المقصود بالذات ، وهو تذكر سلطان الله تعالى المستولي علينا وعلى العالم كله ، ومن شأن الإنسان إذا أراد عملا قلبيا يجتمع فيه الفكر ، ويصح فيه توجه النفس ، وحضور القلب أن يستعين على ذلك ببعض ما يناسبه من قول وعمل .

ولا ريب أن هذه الهيئة التي اختارها الله تعالى للصلاة هي أفضل معين على استحضار سلطانه ، وتذكر كرمه ، وإحسانه ، فإن قولك : ( ( الله أكبر ) ) في فاتحة الصلاة ، وعند الانتقال فيها من عمل إلى عمل يعطيك من الشعور بكون الله أكبر وأعظم من كل شيء تشغل به نفسك ، وتوجه إليه همك ما يغمر روحك ، ويستولي على قلبك وإرادتك . وفي قراءة الفاتحة من الثناء على الله تعالى ، وتذكر رحمته ، وربوبيته ، ومعاهدته على اختصاصك إياه بالعبادة والاستعانة ، ومن دعائه : لأن يهديك صراطه الذي استقام عليه من سبقت لهم منة النعمة من عباده الصالحين ما فيها مما تقدم شرحه في تفسيرها . وكل ما تقرؤه من القرآن بعد الفاتحة له في النفس آثار محمودة تختلف باختلاف ما في القرآن من المعارف العالية ، والحكمة البالغة ، والعبر العظيمة ، والهداية القويمة . وانحناؤك للركوع وللسجود بعد ذلك يقوي في النفس [ ص: 352 ] معنى العبودية ، وتذكر ، عظمة الألوهية ، ونعم الربوبية ، لما في هذين العملين من علامة الخضوع والخروج ، عن المألوف ، وما شرع فيهما من تسبيح الله ، وتذكر عظمته ، وعلوه جل ثناؤه .

فإذا تعذر عليك الإتيان ببعض تلك الأعمال البدنية ، فإن ذلك لا يسقط عنك هذه العبادة القلبية التي هي روح الصلاة ، وغيرها ، وهي الإقبال على الله تعالى ، واستحضار سلطانه ، مع الإشارة إلى تلك الأعمال بقدر الإمكان الذي لا يمنع من مدافعة الخوف الطارئ من سبع مفترس ، أو عدو مغتال ، أو لص محتال ، وكيف يسقط طلب الصلاة القلبية في حال خوف وهو يساعد على الخروج منه ، أو تخفيف وقعه ؟ فالآية تعلمنا أنه يجب ألا يذهلنا عن الله تعالى شيء من الأشياء ، ولا يشغلنا عنه شاغل ، ولا خوف في حال من الأحوال ، ولذلك قال : ( فإن خفتم فرجالا أو ركبانا ) أي : فصلوا مشاة أو راكبين كيفما اتفق ، وهذا في حالة الملاحمة في القتال ، أو مقاومة العدو ، ودفع الصائل ، أو الفرار من الأسد ; أي : ممارسة ذلك بالفعل ، فإن كان الوقت وقت الصلاة صلى المكلف راجلا أو راكبا لا يمنعه من صلاته الكر ، والفر ، ولا الطعن ، والضرب ، ويأتي من أقوال الصلاة بما يأتي مع الحضور والذكر ، ويومئ بالركوع ، والسجود بقدر الاستطاعة ، ولا يلتزم التوجه إلى القبلة . وأما صلاة الخوف في غير هذه الحالة كصلاة الجند المعسكر بإزاء العدو جماعة فهي مذكورة في سورة النساء .

( فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون ) أي : زال خوفكم واطمأننتم فاذكروا الله ; لأنه علمكم كيف تعبدونه وتصلون له في حال الخوف ، فيكون ذلك عونا لكم على دفعه; أي : تذكروا نعمه عليكم بهذا التعليم واشكروه له ، هذا إذا قيل : إن الكاف للتعليل ، وإذا قلنا : إن الكاف للبدلية فالمعنى : فاذكروه على الطريقة التي علمكم إياها من قبل; أي : فصلوا على السنة المعروفة في الأمن بإتمام القيام ، والاستقبال ، والركوع ، والسجود .

التالي السابق


الخدمات العلمية