صفحة جزء
[ ص: 66 ] وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه وما للظالمين من أنصار

أرشدنا - عز وجل - في الآية إلى أنه يجازي على كل صدقة وكل التزام لصدقة وبر ; لأن علمه محيط بكل عمل وكل قصد ، لنتذكر ذلك فتختار لأنفسنا أفضل ما نحب أن يعلمه عنا فقوله : وما أنفقتم من نفقة يشتمل قليلها وكثيرها سرها وعلانيتها ما كان منها في حق ، وما كان منها في شر ، وما كان عن إخلاص وما كان رئاء الناس ما أتبع منها بالمن والأذى وما لم يتبع بشيء منهما وقوله : أو نذرتم من نذر يأتي فيه مثل ذلك ويشمل ما كان نذر قربة وتبرر ونذر لجاج وغضب ، فالأول ما قصد به التزام الطاعة قربة لله - تعالى - بلا شرط ولا قيد لئلا يتهاون فيها كأن ينذر نفقة معينة أو صلاة نافلة أو بشرط حصول نعمة أو رفع نقمة . كقوله : إن شفى الله فلانا فعلي - أو لله علي - أن أتصدق بكذا أو أقف على الجمعية الخيرية كذا ، والثاني ما يقصد به حث النفس على شيء أو منعها عنه . كقوله : إن كلمت فلانا فعلي كذا . واتفقوا على أنه يجب الوفاء بالأول ، وفي الثاني أقول : منها أنه يجب فيه كفارة يمين بشرطه ، ومنها أنه يخير بين الوفاء بما التزمه وبين كفارة يمين ، ولا محل هنا لتفصيل القول فيما ورد وما قيل في النذر . وإنما نقول : إنه التزام فعل الشيء بلفظ يدل عليه كقول الناذر : لله علي كذا - أو علي لله كذا ، أو نذرت لله كذا ، وينبغي أن يكون في طاعة لأنه لا يتقرب إليه - تعالى - إلا بالطاعة ، فإن نذر فعل معصية حرم عليه أن يفعلها ، وإن نذر مباحا فعله لأن فسخ العزائم من النقص; ولذلك أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - من نذرت أن تضرب بالدف وتغني يوم قدومه بالوفاء . وقد يقال : إن هذا مستحب لا مباح .

وقوله - تعالى - : فإن الله يعلمه جواب الشرط ; أي فإنه - تعالى - يعلم ما ذكر من النفقة أو النذر ، ويجازي عليه إن خيرا فخير وإن شرا فشر ، فالجملة وعد ووعيد وترغيب وترهيب ، ثم أكد ما فيها من الوعيد بقوله : وما للظالمين من أنصار ينصرونهم يوم الجزاء فيدفعون عنهم العذاب بجاههم أو يفتدونهم منه بمالهم كقوله : ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع [ 40 : 18 ] أقول : والظالمون في مقام الإنفاق : هم الذين ظلموا أنفسهم ; إذ لم يزكوها ويطهروها من هذه الفحشاء البخل ، أو من رذائل الرياء والمن والأذى وظلموا الفقراء والمساكين بمنع ما أوجبه الله لهم ، وظلموا الملة والأمة بترك الإنفاق في المصالح العامة ، وبما كانوا قدوة سيئة لغيرهم ، فظلمهم عام شامل . فهل يعتبر بهذا أغنياء المسلمين [ ص: 67 ] وهم يرون أمتهم قد صارت ببخلهم أبعد الأمم عن الخير بعد أن كانت خير أمة أخرجت للناس ؟ أما إنهم لا يجهلون أن المال هو القطب الذي تدور عليه جميع مصالح الأمم في هذا العصر ، وأنهم لو شاءوا لانتشلوا هذه الأمة من وهدتها ، وعادوا بها إلى عزتها ، ولكنهم قوم ظالمون ، قساة لا يتوبون ولا يتذكرون .

التالي السابق


الخدمات العلمية