صفحة جزء
[ 13 ] ولا يضار كاتب ولا شهيد لفظ " يضار " يحتمل البناء للفاعل وللمفعول ويروى أن بعض الصحابة قد قرءوا بفك الإدغام . فعمر وابن عباس على الأول وابن مسعود على الثاني . ولعل ذلك كان تفسيرا لا قراءة ، والمعنى على الأول نهي الكاتب والشهيد أن يضرا أحد المتعاملين بعدم الإجابة أو بالتحريف والتغيير ونحو ذلك ، ومعنى الثاني نهي المتعاملين عن ضر الكاتب أو الشهيد بأن يدعيا إلى ذلك وهما مشغولان بمهم لهما فيكلفان تركه ، وروى ابن جرير ما يؤيد هذا وهو أن الرجل كان يجيء الكاتب فيقول : " اكتب لي " فيعتذر بعذره ويدل على غيره فلا يقبل منه ، ويقال له : إنك قد أمرت أن تكتب فيلزم بذلك ويضار فنزلت . وهذه الرواية لا تصلح سببا إلا إذا كان نزول هذا النهي متراخيا عن نزول الأمر بالكتابة وهما في آية واحدة نزلت دفعة واحدة . وأقوى منها في تأييده : ما قد اشترط في الكاتب والشهداء من الشروط التي تستلزم نفي المضارة ، فبقي أن يؤمر المتعاملون بعدم مضارة الكتاب والشهداء بإلزامهم بترك منافعهم لأجل الكتابة والشهادة أو بتحميلهم المشقة في ذلك بلا عوض ، فالمتبادر من النهي أنه عن مضارة المتعاملين للكاتب والشهيد . وإذا قيل بأنها ترشد إلى إعطائهما أجرة ما يحملان من الكلفة لم يكن ببعيد ، ومقتضى مذهب الشافعية في جواز استعمال المشترك في معنييه واللفظ في حقيقته ومجازه : أنه يجوز أن يراد بـ " يضار " البناء للفاعل وللمفعول معا ؛ لأنه من قبيل الأول ، واستعمل " يضار " الدال على المشاركة للإشارة إلى أن ضر الإنسان لغيره ضر لنفسه والله أعلم وإن تفعلوا ما نهيتم عنه من إضرار الكاتب والشهيد فإنه فسوق بكم ، أي فإن هذا الفعل خروج بكم عن حدود طاعة الله [ ص: 107 ] - تعالى - إلى معصيته وأشير بقوله : ( وإن ) إلى أن مثل هذا الفعل الذي يتحقق به الفسق لا يكاد يقع من المخاطبين ، وهم الذين آمنوا ؛ لأن من شأن الإيمان أن يمنع منه .

ثم ختم الآية بالموعظة العامة التي تعين النفس على الامتثال في جميع الأعمال وذلك قوله - عز وجل - : واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم أي اتقوا الله في جميع ما أمركم به ونهاكم عنه ، وهو يعلمكم ما فيه قيام مصالحكم وحفظ أموالكم وتقوية رابطتكم ، فإنكم لولا هدايته لا تعلمون ذلك ، وهو - سبحانه - العليم بكل شيء فإذا شرع شيئا فإنما يشرعه عن علم محيط بأسباب درء المفاسد وجلب المصالح لمن اتبع شرعه ، وكرر لفظ الجلالة لكمال التذكير وقوة التأثير . وقال البيضاوي : كرر لفظ الله في الجمل الثلاث لاستقلالها ، فإن الأولى حث على التقوى ، والثانية وعد بإنعامه ، والثالثة تعظيم لشأنه ولأنه أدخل في التعظيم من الكناية . وهذا مبني على أن الثانية جملة مستأنفة وقيل : هي جملة حالية .

قال الأستاذ الإمام : اشتهر على ألسنة المدعين للتصوف في معنى هاتين الجملتين واتقوا الله ويعلمكم الله أن التقوى تكون سببا للعلم ، وبنوا على ذلك أن سلوك طريقتهم وما يأتونه فيها من الرياضة وتلاوة الأوراد والأحزاب تثمر لهم العلوم الآلهية وعلم النفس وغير ذلك من العلوم بدون تعلم . وهذا الزعم فتح للجاهلين الذين يلبسون لباس الصلاح دعوى العلم بالله وفهم القرآن والحديث ومعرفة أسرار الشريعة من غير أن يكونوا قد تعلموا من ذلك شيئا ، والعامة تسلم لهم بهذه الدعوى وتصدق قولهم أن الله هو الذي تولى تعليمهم ويسمون علمهم هذا بالعلم اللدني . ويرد استدلالهم بالآية على ذلك من وجهين :

أحدهما : أنه لا يرضى به سيبويه وله الحق في ذلك ؛ لأن عطف يعلمكم على اتقوا الله ينافي أن يكون جزاء له ومرتبا عليه ؛ لأن العطف يقتضي المغايرة . ولو قال " يعلمكم " بالجزم لكان مفيدا لما قالوه ، وكذلك لو كان العطف بالفاء أو اتصل بالفعل لام التعليل .

والثاني : أن قولهم هذا عبارة عن جعل المسبب سببا والفرع أصلا والنتيجة مقدمة ، فإن المعروف المعقول أن العلم هو الذي يثمر التقوى ، فلا تقوى بلا علم فالعلم هو الأصل الأول ، وعليه المعول . وبعد أن أطال بعض الإطالة في بيان تأثير العلم في الإرادة بتوجيهها إلى العمل الصالح وصرفها عن العمل القبيح - وتلك هي التقوى - قال : إننا لا ننكر العلم الذي يسمونه لدنيا ، وإنما ننكر أن يكون غاية لذلك الطريق الجائر الذي يشترط فيه الجهل ، ونقول : إن العلم بالله - تعالى - والعلم بالشرع والعمل به مع الإخلاص قد يصرف العالم العامل المخلص إلى الله - تعالى - حتى يكون كالمنفصل بقلبه وروحه عن العالم الطبيعي ، وقد يحصل له عند ذلك إشراف على ما لا يشرف عليه غيره يعني من أسرار الحكمة الإلهية والتحقق ببعض المعارف الغيبية ، فيعلم مما قصه الله علينا من خبر الآخرة والملائكة ما لا يعلمه كل ناظر في معاني الألفاظ والأساليب في الكتاب ، وأين هذا مما يدعيه أعوان الجهل وأعداء العلم ! [ ص: 108 ] وأقول : إنهم يستدلون على زعمهم ذلك بآية أخرى توهم بعض من كتب في التفسير أنها بمعنى ما قالوه هنا وهي قوله - تعالى - : يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم [ 8 : 29 ] الآية وهو غلط . فسر بعض أهل الأثر الفرقان هنا بالمخرج ، فالشرطية عنده كالشرطية في قوله - تعالى - في سورة الطلاق : ومن يتق الله يجعل له مخرجا [ 65 : 2 ] وبعضهم بالنجاة ، وبعضهم بالنصر . قال ابن جرير وكل ذلك متقارب المعنى وإن اختلفت العبارات ، وهو كما قال فإن الآية في سورة الأنفال ومعظمها يتعلق بحال المسلمين قبل واقعة بدر ، وكانوا في ضيق شديد كان الخروج منه بإنجائهم من عدوهم ونصرهم عليه ، وما نصروا على قلتهم إلا بتقوى الله التي جمعت كلمتهم وقوت عزيمتهم . والتقوى تكون سبب الفرقان والمخرج في كل شيء بحسبه ؛ لأنها عبارة عن اتقاء أسباب الضرر والخذلان في النفس وفي الخارج ; ولذلك يفسر المخرج في آية سورة الطلاق - وهي في مقام الإنفاق على النساء - بما لا يفسر به في سورة الأنفال ، وهي في مقام المدافعة والقتال لحماية الدعوة وأهلها .

هذا وإن الفرقان في اللغة هو الصبح الذي يفرق بين الليل والنهار ، ويسمى القرآن فرقانا ؛ لأنه كالصبح يفرق بين الحق والباطل ، وتقوى الله - تعالى - في الأمور كلها تعطي صاحبها نورا يفرق به بين دقائق الشبهات التي لا يعلمهن كثير من الناس فهي تفيده علما خاصا لم يكن ليهتدي إليه لولاها . وهذا العلم الذي هو غير العلم الذي يتوقف على التلقين كالشرع أصوله وفروعه ، وهو ما لا تتحقق التقوى بدونه ؛ لأنها عبارة عن العمل - فعلا وتركا - بعلم ، فالعلم الذي هو أصل التقوى وسببها لا يكون إلا بالتعلم كما ورد في الحديث " العلم بالتعلم " .

والعلم الذي هو فرعها وثمرتها هو ما تفطن له النفس بعد فيفيدها الرسوخ في العلم الأول بالعمل به ، فإن العلم يكون في النفس مجملا مبهما حتى يعمل به ، فإذا عمل به صار مفصلا جليا راسخا تتبين به الدقائق والخفايا . وبذلك تفطن نفس العامل إلى مسائل أخرى تطلبها بالتجربة والبحث حتى تصل إليها كما يعرف كل واقف على ترقي العلوم الطبيعية في الأنفس والأشياء ، وهو المشار إليه بحديث: " ومن تعلم فعمل علمه الله ما لم يعلم " رواه أبو الشيخ عن ابن عباس وحديث " من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم " رواه أبو نعيم في الحلية من حديث أنس ، وإذا علمت أن التقوى عمل يتوقف على العلم ، وأن هذا العلم [ ص: 109 ] لا بد أن يؤخذ بالتعليم والتلقي ، وأن العمل بالعلم من أسباب المزيد فيه وخروجه من مضيق الإبهام والإجمال إلى فضاء الجلاء والتفصيل ، فهمت المراد بالفرقان على عمومه ، وعلمت أن أدعياء التصوف الجاهلين لا حظ لهم من ذلك العلم الأول ، ولا من هذه التقوى التي هي أثره ولا من هذا العلم الأخير الذي هو أثر العلم والتقوى جميعا ، فبينهم وبين العلم اللدني مرحلتان بعيدتان : العلم الذي يؤخذ بالتلقي والتقوى بالعمل به .

التالي السابق


الخدمات العلمية