صفحة جزء
بين الله - تعالى - لنا شأن المؤمن في السمع والطاعة ثم طلب المغفرة لما يلم به أو يتهم به نفسه من التقصير ، وفضله ومنته في عدم تكليف النفس ما ليس في وسعها ، ثم علمنا هذا الدعاء لندعوه به وهو ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا فتركنا ما ينبغي فعله أو فعلنا ما يجب تركه ، أو جئنا بالشيء على غير وجهه ، وهذا يدل على أن من شأن النسيان والخطأ أن يؤاخذ عليهما ، وسيأتي بيان الوجه فيه . والمؤاخذة : المعاقبة ، وهي من الأخذ ؛ لأن من يراد عقابه يؤخذ بيد القهر .

قال الأستاذ الإمام : ومن الناس من قال : إن الخطأ والنسيان لا مؤاخذة عليهما ؛ لأن الناسي والمخطئ لا إرادة لهما فيما فعلاه نسيانا أو خطأ ، ومثل هذا الكلام يوجد في كتب الأصول والكلام ، ويتبعه من المناقشات ما يبعد به عن حدود الأفهام ، وإذا رجع الإنسان إلى نفسه وتأمل الأمر في ذاته علم أن الناسي يصح أن يؤاخذ فيقال له لم نسيت ؟ فإن النسيان قد يكون من عدم العناية بالشيء وترك إجالة الفكر فيه وترديده في النفس ليستقر في الذاكرة ، فتبرزه عند الحاجة إليه ; ولذلك ينسى الإنسان ما لا يهمه ويحفظ ما يهمه ، فإذا كان النسيان غير اختياري فسببه الذي بيناه آنفا اختياري ، ولذلك يؤاخذ الناس بعضهم بعضا بالنسيان لا سيما نسيان الأدنى لما يأمره به الأعلى ، فإذا عهدت إلى من عليه سلطان أو فضل بأن يفعل كذا أو يجيئك في يوم كذا فنسي ولم يمتثل فإنك تسأله وتؤاخذه بما ترميه به من الإهمال وعدم العناية بأمرك ، وقد آخذ الله آدم على ذنبه ثم تاب عليه مع قوله فيه : ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما [ 20 : 115 ] وقال في جواب من يسأل يوم القيامة ربه لم حشره أعمى ؟ من هذه السورة : كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى [ 20 : 126 ] وقال في أهل الكتاب : ونسوا حظا مما ذكروا به [ 5 : 13 ] وفي الآية : فنسوا حظا مما ذكروا به [ 5 : 14 ] وهناك آية أخرى ، وقد فسر النسيان فيها بالترك الذي هو لازمه ، وذلك لا يمنع الاستدلال بها ؛ لأن المراد بالنسيان هنا أيضا لازمه ، وهو ترك الامتثال . وكذلك الخطأ ينشأ من التساهل وعدم الاحتياط والتروي ، ولذلك أوجبت الشريعة الضمان في إتلاف الخطأ والدية في جنايته ، فإن أراد امرؤ أن يرمي صيدا فأصاب إنسانا فقتله كان مؤاخذا في الشريعة ، وكذا في القوانين [ ص: 124 ] الوضعية ، فثبت أن المؤاخذة على النسيان والخطأ مما جاءت به الشريعة وجرى عليه عرف الناس في معاملاتهم وقوانينهم ، ولو لم يكن كل من الناسي والمخطئ مقصرا لما كان هذا ، وكما جاز ذلك وحسن يجوز أن يؤاخذ الله الناس في الآخرة بكل ما يأتونه من المنكر ناسين تحريمه أو واقعين فيه خطأ ، ولكنه - تعالى - علمنا أن ندعوه بألا يؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ، وذلك من فضله علينا وإحسانه في هدايتنا ، فإن هذا الدعاء يذكرنا بما ينبغي من العناية والاحتياط والتفكر والتذكر لعلنا نسلم من الخطأ والنسيان أو يقل وقوعهما منا فيكون ذنبا جديرا بالعفو والمغفرة ، فهذا الدعاء لا يدل على أن حكم الله في النسيان والخطأ ألا يؤاخذ عليهما ، بل قصارى ما يؤخذ منه أنهما مما يرجى العفو عنهما إذا وقع العبد بعد بذل جهده والاحتياط والتحري والتفكر والتذكر وأخذ الدين بقوة وشعر بتقصيره فلجأ إلى الدعاء الذي يقوي في النفس خشية الله - تعالى - والرجاء بفضله ، فيكون هذا الإقبال على الله - تعالى - نورا تنقشع به ظلمة ذلك التقصير ، ولعل إيراد الشرط بأن للإيذان بأن هذا خلاف ما ينبغي أن يكون عليه المؤمن وأنه لا يقع إلا قليلا . وهذا وما قبله مما زدته على كلام الأستاذ الإمام في هذا المقام .

وقد يرد على هذا التفسير حديث ابن عباس المرفوع عند ابن ماجه وابن المنذر وابن حبان والدارقطني والبيهقي في السنن وهو : إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه وهو ضعيف لا يسلم له إسناد ، ولكنه لكثرة طرقه يعد عندهم من الحسن لغيره ( قاله في فتح البيان ) وقد يقال : إن مخالفته لظاهر الآية تدل على وضعه لا ضعفه إلا أن يؤول بأن هذه الأمور أنفسها مما يتجاوز عنها في الآخرة ولما يترتب عليها حكمه ، فإن كان صلاة أعيدت وإن كان ذنبا وجبت التوبة منه والتضرع إلى الله بالدعاء ، وإلا أوخذ الناسي والمخطئ على ما يترتب على النسيان والخطأ دونهما ، وقد أخطأ القرافي في فروقه بما كتب في هذا المقام خطأ ندعو الله أن يغفره له .

ربنا ولا تحمل علينا إصرا الإصر : العبء الثقيل ، يأصر صاحبه أي يحبسه مكانه لا يستقل به لثقله ، وحمله أكثر المفسرين على التكاليف الشاقة ؛ لأن الآية نزلت في زمن التشريع ونزول الوحي ; ولذلك قال : كما حملته على الذين من قبلنا أي من الأمم التي بعث فيها الرسل كبني إسرائيل . فقد كانت التكاليف شاقة عليهم جدا ، وفي تعليمنا هذا الدعاء بشارة بأنه - تعالى - لا يكلفنا ما يشق علينا . كما صرح بذلك بعد في قوله : ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج [ 5 : 6 ] وهو يتضمن الامتنان علينا وإعلامنا بأنه كان يجوز أن يحمل علينا الإصر ، وأنه يجب علينا شكره لذلك ، وحكمة الدعاء بذلك الآن استشعار النعمة والشكر عليها . وقال بعضهم : إن الإصر هو العقوبة على ترك الامتثال وعدم حمل الشريعة على وجهها ، [ ص: 125 ] فطلب منا أن ندعوه بألا تكون عقوبتنا على ذلك كعقوبة الأمم السابقة الذين نزلت بهم ألوان من العذاب ودمرتهم تدميرا حتى هلكوا هلاكا حسيا . فلم يبق منهم أحد أو هلاكا معنويا بأن ضاعت أو تضعضعت شريعتهم ونسوا ما ذكروا به حتى عادوا إلى الوثنية والهمجية .

ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به من العقوبة أو من البلايا والفتن والمحن . وذهب بعض المفسرين إلى أن المراد به الشرائع والأحكام ، وجعلوه دليلا على جواز تكليف ما لا يطاق - كما تقدم - فهو عندهم بمعنى ما قبله .

قال الأستاذ الإمام : مسألة تكليف ما لا يطاق من الكلام الذي نعوذ بالله منه والخلاف فيها لا يترتب عليه أثر ما في الشريعة ، وأصل المسألة : هل يجوز على الله عقلا أن يكلف الناس ما لا يطيقون أم لا ؟ والمتقدمون على أن ذلك لم يقع . وما لا يطاق هو ما لا يدخل في مكنة الإنسان وطوقه ، وما يطاق : هو ما يمكن أن يأتيه ولو مع المشقة ، وقد جعلوا ما لا يطاق بمعنى المتعذر الذي يعلو القدرة كالذي يستحيل فعله عقلا أو عادة ، والواجب علينا أن نفهم القرآن بلغته التي أنزل بها ، لا بعرف أفلاطون وفلسفة أرسطو ، وقد رأينا العرب تعبر مما يطاق عما فيه مشقة شديدة كقول الشاعر :


وليس يبين فضل المرء إلا إذا كلفته ما لا يطيق



أقول : يريد - رحمه الله تعالى - أننا إذا فسرنا ما لا طاقة لنا به بالأحكام والتكاليف كان معناه ما فيه مشقة شديدة ، ولا يصح ذلك إلا إذا فسرنا الإصر بالعقوبة تفاديا من التكرار ، والأولى أن يفسر الإصر : بالتكاليف الشاقة ، وما لا طاقة به : بالعقوبة على التقصير فيها ، وهو يتضمن الدعاء بنفي سبب العقوبة فيكون المعنى : ربنا لا تحمل علينا ما يشق علينا من الأحكام ، بل حملنا اليسير الذي يسهل علينا حمله ، ربنا ووفقنا لحمل ما حملتنا والنهوض به كما تحب وترضى ، لكيلا نستحق بمقتضى سنتك أن تحملنا ما لا طاقة لنا به من عقوبة المفرطين في دينهم ، المسرفين في أهوائهم . واعف عنا بمحو أثر ما عسانا نلم به من أنفسنا وعدم العقوبة عليه واغفر لنا ، أي لا تفضحنا بإظهاره بذاته ولا بالمؤاخذة عليه وارحمنا في كل حال بما توفقنا له من إقامة دينك والسير على سننك التي جعلتها بحكمتك طرقا للسعادة .

أنت مولانا الذي منحتنا أنواع الهداية ، وأيدتنا بالتوفيق والعناية ، فلا نعبد إلا إياك ، ولا نستعين بسواك فانصرنا على القوم الكافرين الذين اتخذوا من دونك أولياء ، وجهلوا سننك في أنفسهم وفي سائر الأشياء ، فأعرضوا عما مددت لهم من الأسباب ، وجعلوا الملائكة والنبيين ومن دونهم من الأرباب ، والذين حجبتهم سننك الكونية ، عن الإيمان بالألوهية [ ص: 126 ] والربوبية ، انصرنا على الجاحدين والمرتابين منهم بالحجة والبرهان ، وعلى المعتدين بالسيف والسنان ، وغير ذلك من أسباب حماية الحق التي تختلف باختلاف الزمان .

استحسن الأستاذ الإمام تفسير الجلال " النصر " بالغلبة بالحجة وبالسيف وقال : إن النصر بالحجة هو أعلى النصر وأفضله ؛ لأنه نصر على الروح والعقل ، والنصر بالسيف إنما هو نصر على الجسد ولا نؤثر عنه في تفسير هذه الجمل الأخيرة من الآية شيئا إلا هذه العبارة ، ولكنه قال في شأن هذا الدعاء كله ما مثاله : إن الله - تعالى - ما علمنا هذا الدعاء لأجل أن نلوكه بألسنتنا ونحرك به شفاهنا فقط ، كما يفعل أهل الأوراد والأحزاب ، بل علمنا إياه لأجل أن ندعوه به مخلصين له لاجئين إليه بعد أخذ ما أنزله بقوة والعمل به على قدر الطاقة واستعمال ما يصل إليه كسبنا من الوسائل والذرائع التي هي وسائل الاستجابة في الحقيقة ، فمن دعاه بلسان مقاله ولسان حاله معا فإنه يستجيب له بلا شك ، ومن لم يعرف من الدعاء إلا حركة اللسان مع مخالفة الأحكام وتنكب السنن فهو بدعائه كالساخر من ربه الذي لا يستحق إلا مقته وخذلانه ، فإذا كان - سبحانه - قد بين لنا سبب المغفرة والعفو ، وهدانا إلى طرق الغلبة والنصر ، فأعرضنا عن هدايته ، وتنكبنا سننه في خليقته ، ثم طلبنا منه ذلك بألسنتنا دون قلوبنا وجوارحنا ، أفلا نكون نحن الجانين على أنفسنا ؟ وتوقف الدعاء على العمل يستلزم توقفه على العلم ، فلا يكون الداعي داعيا حقيقة كما يحب الله ويرضى إلا إذا كان قد عرف ما يجب عليه من الشريعة وسنن الاجتماع واتبعه بقدر استطاعته . فإذا اتخذت الأمة الوسائل التي أمرت بها ودعت الله - تعالى - أن يثبتها ويتم لها ما ليس في وسعها من أسباب النصر فإن الله - تعالى - يستجيب لها حتما كما ورد في الحديث أن هذه الأمة لا تغلب من قلة . فنسأله - تعالى - التوفيق وهداية أقوم طريق .

التالي السابق


الخدمات العلمية