صفحة جزء
( الوظيفة الأولى التقديس ) ومعناه : أنه إذا سمع اليد والإصبع ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - : إن الله خمر طينة آدم بيده و إن قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن فينبغي أن يعلم أن اليد تطلق لمعنيين ; أحدهما : هو الوضع الأصلي وهو عضو مركب من لحم وعظم وعصب ، واللحم والعظم والعصب جسم مخصوص وصفات مخصوصة ، أعني بالجسم عبارة عن مقدار له طول وعرض وعمق يمنع غيره من أن يوجد بحيث هو إلا بأن يتنحى عن ذلك المكان ، وقد يستعار هذا اللفظ أعني اليد لمعنى آخر ليس ذلك المعنى بجسم أصلا ، كما يقال : البلدة في يد الأمير ، فإن ذلك مفهوم وإن كان الأمير مقطوع اليد مثلا ، فعلى العامي وغير العامي أن يتحقق قطعا ويقينا أن الرسول - عليه السلام - لم يرد بذلك جسما هو عضو مركب من لحم ودم وعظم ، وأن ذلك في حق الله - تعالى - محال وهو عنه مقدس ، فإن خطر بباله أن الله جسم مركب من أعضاء فهو عابد صنم . فإن كل جسم فهو مخلوق وعبادة المخلوق كفر ، وعبادة الصنم كانت كفرا لأنه مخلوق وكان مخلوقا لأنه جسم ، فمن عبد جسما فهو كافر بإجماع الأئمة السلف منهم والخلف ، سواء كان ذلك الجسم كثيفا كالجبال الصم الصلاب ، أو لطيفا كالهواء والماء ، وسواء كان مظلما كالأرض أو مشرقا كالشمس والقمر والكواكب ، أو مشفا لا لون له كالهواء ، أو عظيما كالعرش والكرسي والسماء ، أو صغيرا كالذرة والهباء أو جمادا كالحجارة ، أو حيوانا كالإنسان . فالجسم صنم ، فبأن يقدر حسنه وجماله أو عظمه أو صغره أو صلابته وبقاؤه لا يخرج عن كونه صنما ، ومن نفى الجسمية عنه وعن يده وأصبعه فقد نفى العضوية واللحم والعصب ، وقدس الرب - جل جلاله - عما يوجب الحدوث ليعتقد بعده أنه عبارة عن معنى من المعاني ليس بجسم ولا عرض في جسم يليق [ ص: 173 ] ذلك المعنى بالله - تعالى - ، فإن كان لا يدري ذلك المعنى ولا يفهم كنه حقيقته فليس عليه في ذلك تكليف أصلا ، فمعرفة تأويله ومعناه ليس بواجب عليه بل واجب عليه ألا يخوض فيه كما سيأتي .

مثال آخر : إذا سمع الصورة في قوله - صلى الله عليه وسلم - : إن الله خلق آدم على صورته و إني رأيت ربي في أحسن صورة فينبغي أن يعلم أن الصورة اسم مشترك قد يطلق ويراد به الهيئة الحاصلة في أجسام مؤلفة مولدة مرتبة ترتيبا مخصوصا مثل الأنف والعين والفم والخد التي هي أجسام وهي لحوم وعظام ، وقد يطلق ويراد به ما ليس بجسم ولا هيئة في جسم ، ولا هو ترتيب في أجسام ، كقولك عرف صورته وما يجري مجراه ، فليتحقق كل مؤمن أن الصورة في حق الله لم تطلق لإرادة المعنى الأول الذي هو جسم لحمي وعظمي مركب من أنف وفم وخد ، فإن جميع ذلك أجسام وهيئات في أجسام ، وخالق الأجسام والهيئات كلها منزه عن مشابهتها أو صفاتها ، وإذا علم هذا يقينا فهو مؤمن فإن خطر له أنه إن لم يرد هذا المعنى الذي أراده فينبغي أن يعلم أن ذلك لم يؤمر به بل أمر بألا يخوض فيه ، فإنه ليس على قدر طاقته ، لكن ينبغي أن يعتقد أنه أريد به معنى يليق بجلال الله وعظمته مما ليس بجسم ولا عرض في جسم .

مثال آخر : إذا قرع سمعه النزول في قوله - صلى الله عليه وسلم - : ينزل الله - تعالى - في كل ليلة إلى السماء الدنيا فالواجب عليه أن يعلم أن النزول اسم مشترك ، قد يطلق إطلاقا يفتقر فيه إلى ثلاثة أجسام : جسم عال هو مكان لساكنه ، وجسم سافل كذلك ، وجسم منتقل من السافل إلى العالي ومن العالي إلى السافل ، فإن كان من أسفل إلى علو سمي صعودا وعروجا ورقيا ، وإن كان من علو إلى أسفل سمي نزولا وهبوطا ، وقد يطلق على معنى آخر ولا يفتقر فيه إلى تقدير انتقال وحركة في جسم ، كما قال الله - تعالى - : وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج [ 39 : 6 ] وما رؤي البعير والبقر نازلا من السماء بالانتقال ، بل هي مخلوقة في الأرحام ، ولإنزالها معنى لا محالة كما قال الشافعي - رضي الله عنه - : " دخلت مصر فلم يفهموا كلامي ، فنزلت ثم نزلت ثم نزلت " . فلم يرد به انتقال جسده إلى أسفل ، فتحقق المؤمن قطعا أن النزول في حق الله - تعالى - ليس بالمعنى الأول وهو انتقال شخص وجسد من علو إلى أسفل فإن الشخص والجسد أجسام ، والرب - جل جلاله - ليس بجسم ، فإن خطر له أنه إن لم يرد هذا فما الذي أراد ؟ فيقال له : أنت إذا عجزت عن فهم نزول البعير من السماء فأنت عن فهم نزول الله - تعالى - أعجز ، فليس هذا بوسعك فاتركه ، واشتغل بعبادتك أو حرفتك واسكت ، واعلم أنه أريد به معنى من المعاني التي [ ص: 174 ] يجوز أن تراد بالنزول في لغة العرب ويليق ذلك المعنى بجلال الله - تعالى - وعظمته ، وإن كنت لا تعلم حقيقته وكيفيته .

مثال آخر : إذا سمع لفظ الفوق في قوله - تعالى - : وهو القاهر فوق عباده [ 6 : 18 ] وفي قوله - تعالى - : يخافون ربهم من فوقهم [ 16 : 5 ] فليعلم أن الفوق اسم مشترك يطلق لمعنيين ; أحدهما : نسبة جسم إلى جسم بأن يكون أحدهما أعلى والآخر أسفل ، يعني : أن الأعلى من جانب رأس الأسفل ، وقد يطلق لفوقية الرتبة ، وبهذا المعنى يقال : الخليفة فوق السلطان والسلطان فوق الوزير ، وكما يقال العلم فوق العلم ، والأول : يستدعي جسما ينسب إلى جسم .

والثاني : لا يستدعيه ، فليعتقد المؤمن قطعا أن الأول غير مراد ، وأنه على الله - تعالى - محال ، فإنه من لوازم الأجسام أو لوازم أعراض الأجسام ، وإذا عرف نفي هذا المحال فلا عليه إن لم يعرف أنه لماذا أطلق وماذا أريد ؟ فقس على ما ذكرناه ما لم نذكره .

التالي السابق


الخدمات العلمية