صفحة جزء
[ ص: 195 ] زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب لاتصال هذه الآية بما قبلها وجوه : أحدها مبني على القول بأن بضعا وثمانين آية من أول هذه السورة نزلت في وفد نصارى نجران . وروى أصحاب السير أن هذا الوفد كان ستين راكبا ، وأنهم دخلوا المسجد النبوي وعليهم ثياب الحبرات وأردية الحرير ، وفي أصابعهم خواتم الذهب ، وطفقوا يصلون صلاتهم ، فأراد الناس منعهم ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : دعوهم ثم عرضوا هديتهم عليه وهي بسط فيها تصاوير ومسوح فقبل المسوح دون البسط .

ولما رأى فقراء المسلمين ما على هؤلاء من الزينة تشوفت نفوسهم إلى الدنيا فنزلت الآية .

كذا قال بعضهم ، وهو ما يذكره أهل السير ولا يخفى ضعفه . وقال الأستاذ الإمام : إن رئيس وفد نجران ذكر في حديثه مع النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يمنعه من الاعتراف بأنه هو النبي المبشر به وبصدقه أن هرقل ملك الروم أكرم مثواه ومتعه وأنه يسلبه ما أعطاه من مال وجاه إذا هو آمن . فبين - تعالى - أن ما زين للناس من حب الشهوات حتى صرفهم عن الحق لا خير فيه . وقال الإمام الرازي : إنا روينا أن أبا حارثة بن علقمة النصراني اعترف لأخيه بأنه يعرف صدق محمد - صلى الله عليه وسلم - في قوله إلا أنه لا يقر بذلك خوفا من أن يأخذ منه ملوك الروم المال والجاه . ( قال ) وروينا أنه - عليه الصلاة والسلام - لما دعا اليهود إلى الإسلام بعد غزوة بدر أظهروا من أنفسهم القوة والشدة والاستظهار بالمال والسلاح ، فبين في هذه الآية أن هذه الأشياء وغيرها من متاع الدنيا باطلة وأن الآخرة خير وأبقى . اهـ .

ومنها ما هو مبني على أن الآيات نزلت في تقرير أمر التوحيد وما يتبعه ، والاتصال على هذا الوجه أظهر ; فإنه بعدما بين أن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم التي أعرضوا عن الحق لأجلها بين وجه غرورهم بها للتحذير من جعلها آلة للغرور وترك الحق ، وللتذكير بأنه لا ينبغي أن تشغل الإنسان عن الآخرة .

[ ص: 196 ] ومنها - وهو المختار عند الأستاذ الإمام - إنه لما كان الكلام السابق يتضمن وعيد الكافرين جاء بعده بوعد المتقين ، وجعل له مقدمة بين فيها جميع أصول اللذات التي يتمتع بها الناس بحسب غرائزهم تمهيدا لتعظيم شأن ما بعدها من أمر الآخرة . أقول : يعني أنه ليس المراد ذمها والتنفير عنها ، وإنما المراد التحذير من أن تجعل هي غاية الحياة .

والناس في قوله - تعالى - : زين للناس حب الشهوات هم المكلفون ; لأن الكلام في إرشادهم ، فلا معنى للبحث في الأطفال هنا .

والشهوات : جمع شهوة وهي انفعال النفس بالشعور بالحاجة إلى ما تستلذه ، والمراد بها هنا المشتهيات على طريق المبالغة ، وهي شائعة الاستعمال ، يقال : هذا الطعام شهوة فلان ، أي مشتهاه . ومعنى تزيين حبها لهم : أن حبها مستحسن عندهم لا يرون فيه شينا ( قبحا ) ولا غضاضة ، وقد يحب الإنسان الشيء وهو يراه من الشين لا من الزين ومن الضار لا من النافع ، ويود لذلك لو لم يكن يحبه ، ومثل لذلك الإمام الرازي بحب المسلم لبعض المحرمات ، ومثل له الأستاذ الإمام بحب بعض الناس للدخان على تأذيه منه ، فكل من هذين المحبين يود لو انقلب حبه كرها وبغضا ، ومن أحب شيئا ولم يزين له يوشك أن يرجع عن حبه يوما ، وأما من زين له حبه الشيء فلا يكاد يرجع عنه ; لأن ذلك منتهى الحب ، وصاحبه لا يكاد يفطن لقبحه وضرره إن كان قبيحا أو ضارا ، ولا يحب أن يرجع وإن تأذى به . قال المجنون :


وقالوا لو تشاء سلوت عنها فقلت لهم : وإني لا أشاء



ولذلك قال - تعالى - : أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم [ 47 : 14 ] وقد اختلف المفسرون في إسناد التزيين في هذا المقام فأسنده بعضهم إلى الشيطان ; لأن حب الشهوات مذموم لا سيما وقد أطلقت هنا فدخل فيها المحرمات في رأيهم ; ولأن حب كثرة المال مذموم في الدين بحسب فهمهم له ; ولأنه سمى ذلك متاع الحياة الدنيا وهي مذمومة عندهم ; ولأنه فضل عليه ما أعده للمتقين يوم القيامة ، ويؤثر هذا الإسناد عن الحسن البصري . وأسنده بعضهم إلى الله - تعالى - ; لأنه - تعالى - أباح الزينة والطيبات وأنكر على من حرم ذلك بقوله : قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة [ 7 : 32 ] فجعل إباحتها في الدنيا غير منافية لنيلها في الآخرة ; ولأنها قد تكون وسائل للآخرة بتكثير النسل وكثرة الصدقات والمبرات والجهاد ، وعزي هذا القول إلى المعتزلة . وقال بعض المعتزلة بالتفصيل ، فقسم الشهوات إلى محمودة ومذمومة أو مباحة ومحرمة . وقال : إن الله زين القسم الأول ، والشيطان زين القسم الثاني . أقول : وغفل الجميع عن كون الكلام في طبيعة البشر وبيان حقيقة الأمر في نفسه لا في جزئياته وأفراد وقائعه . فالمراد أن الله - تعالى - أنشأ الناس على هذا وفطرهم عليه ، [ ص: 197 ] ومثل هذا لا يجوز إسناده إلى الشيطان بحال وإنما يسند إليه ما قد يعد هو من أسبابه كالوسوسة التي تزين للإنسان عملا قبيحا ; ولذلك لم يسند إليه القرآن إلا تزيين الأعمال . قال - تعالى - : وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم [ 8 : 48 ] الآية ، وقال : وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون [ 6 : 43 ] وأما الحقائق وطبائع الأشياء فلا تسند إلا إلى الخالق الحكيم الذي لا شريك له . قال - عز وجل - : إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا [ 18 : 7 ] وقال : كذلك زينا لكل أمة عملهم [ 6 : 108 ] فالكلام في الأمم كلام في طبائع الاجتماع وفي هذا المعنى آيات أخرى .

التالي السابق


الخدمات العلمية