صفحة جزء
الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار قال الأستاذ الإمام : وصف الله المتقين بهذه الصفات التي استحقوا بها تلك الدرجات وهو الظاهر على القول بأن قوله : الذين يقولون وصف للذين اتقوا ، وكذا على القول بأنه منصوب على المدح ، أما على القول بأنه استئناف بياني فالمراد بالوصف الوصف بالمعنى ( والصابرين ) منصوب [ ص: 207 ] على المدح ، والمنصوب على المدح أو الاختصاص ليس كلاما مقطوعا مفصولا مما قبله كما يوهمه تقدير الفعل له ، وإنما هو أسلوب بليغ في إيراد الصفة معربة بغير إعراب الموصوف . ووجه البلاغة فيه من ثلاثة أوجه : أحدهما لفظي ، والآخران معنويان ، أما اللفظي : فهو أن اختلاف الإعراب يحدث في الذهن حركة جديدة فينتبه فضل انتباه إلى الكلام الجديد . وأما المعنويان : فأحدهما بيان مزية خاصة في المقام لما به المدح ، كأن يقال هنا في التقدير : وأمدح من هؤلاء الذين يقولون ربنا إننا آمنا . . . الصابرين والصادقين . . . إلخ ; كأنه يشهد لهم بأنهم بهذه الصفات امتازوا على سائر المؤمنين وصاروا أحق بذلك الوعد . وثانيهما : تقرير أن هذه الصفات ممدوحة في ذاتها .

تقدم في تفسير سورة البقرة معنى الصبر وكيفية اكتسابه والاستعانة به . وقال الأستاذ الإمام هنا : مجموع الآيات الواردة في الصبر تدلنا على أن الصبر هو حبس النفس عند كل مكروه ويشق على النفس احتماله ، وأكمل أنواعه الصبر على ملازمة الشريعة في المنشط والمكره . فعندما تهب زوابع الشهوات فتزلزل الاعتقاد بقبح المعاصي وسوء عاقبتها يكون الصبر هو الذي يثبت الإيمان ويقف بالنفس عند الحدود المشروعة ; لذلك قرن الأمر بالتواصي بالحق بالأمر بالتواصي بالصبر في سورة العصر ، والحق هو المقصود الأول من الدين ، وهو لا يقوم إلا بالصبر . وكما يحفظ النفس عند حدود الشرع يحفظ شرف الإنسان في الدنيا عند المكاره ، ويحفظ حقوق الناس أن تغتالها أيدي المطامع . وكتب في تفسير سورة العصر : " الصبر ملكة في النفس يتيسر معها احتمال ما يشق احتماله والرضا بما يكره في سبيل الحق ، وهو خلق يتعلق به بل يتوقف عليه كمال كل خلق ، وما أتي الناس من شيء مثل ما أتوا من فقد الصبر أو ضعفه ، كل أمة ضعف الصبر في نفوس أفرادها ضعف فيها كل شيء وذهبت منها كل قوة " : وأتى بأمثلة متعددة على ذلك .

ويعلم مما تقدم أن تقديم ذكر الصابرين على ما بعده لأنه كالشرط إذ لا يتم بدونه الصدق والقنوت والإنفاق والاستغفار في الأسحار ، وهو الوقت الذي يطيب فيه النوم ويشق القيام . قال الأستاذ الإمام : والصدق يكون في القول والعمل والوصف ، يقال : فلان صادق في عمله ، صادق في جهاده ، صادق في حبه ، كما يقال صادق في قوله . أقول : ويدخل في ذلك الإيمان والنية . والصدق منتهى الكمال في كل شيء ، وحسبك في بيان فضل الصدق وجزائه قوله - عز وجل - : والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون [ 39 : 33 - 35 ] فقد جعل الصدق ملاك الدين كله وجاء مع حقيقته ، وجعل أسوأ الذنوب معه مستحقا لأن يكفر ويغفر ، وأي ذنب يدنس [ ص: 208 ] نفس الصادق في إيمانه وأخلاقه وأقواله وأفعاله فيمنعها استحقاق المغفرة ؟ أليس أسوأ ما يمكن أن يلم به الصادق من الذنب بادرة غضب لا تلبث أن تفيء ، أو نزوة شهوة لا تمكث أن تسكن فيكون مس طائف الشيطان ضعيفا قصير الأمد لا يقوى على إضعاف فضيلة تلك النفس القوية بالصدق ولا على إطفاء نورها ؟ وقد فسروا القانتين بالمطيعين وبالمداومين على الطاعة والعبادة ، وتقدم في سورة البقرة أن القنوت : هو المداومة على الخشوع والضراعة ، أي على روح العبادة ولبابها [ لا ] على صورها ورسومها فقط : والمنفقون معروفون ، ولم يعين النفقة ولا المنفق عليه ، فعلم أن المراد بهم المنفقون للمال في جميع الطرق المشروعة من واجبة ومستحبة ، ولا يمنعون حقا ولا يقبضون أيديهم عن شيء من أعمال البر ، وفسر مجاهد وغيره المستغفرين هنا بالمصلين ، لأن أهل التهجد في آخر الليل يطلبون بتهجدهم مغفرة الله ورضوانه ، فهؤلاء المفسرون يرون أن الاستغفار هو طلب المغفرة بالفعل لا بمجرد حركة اللسان ، ومن يقول : إنه الطلب باللسان فإنه يجعل من شروطه حضور القلب ، ولا يقول أحد يعتد بقوله أن استغفار اللسان وحده نافع ، بل قالوا : إن المستغفر من الذنب وهو مصر عليه كالمستهزئ بربه . وفي مثل هذا الاستغفار الذي يغتر به الجهلة الأغرار قالت رابعة العدوية : استغفارنا يحتاج إلى استغفار كثير . وروي تفسير الاستغفار هنا بالصلاة في وقت السحر وبصلاة الصبح ; أي لأول وقتها وقيده زيد بن أسلم بصلاة الجماعة ، وحكمة تخصيص وقت السحر : أن العبادة تكون حينئذ أشق على أهل البداية ; لأنه الوقت الذي يطيب فيه النوم ويعزب الرياء ، وأروح لأهل النهاية ; لأن النفس تكون أصفى والقلب أفرغ من الشواغل .

ومن مباحث اللفظ النكتة في نسق هذه الأوصاف بالعطف مع أن الأوصاف المعدودة تسرد غير معطوفة . ذكر الأستاذ الإمام عن الزمخشري : أن العطف يفيد كمال الموصوفين بهذه الأوصاف ، وقال غيره من المفسرين : إننا لا نعهد من معاني الواو الكمال في معطوفاتها ، ومن عنده ذوق في اللسان يجد في نفسه فرقا بين المعطوف وغيره ، وذكر أمثلة منها قول الشاعر :


ولو كان رمحا واحدا لاتقيته ولكنه رمح وثان وثالث



وذكر الفرق بينه وبين ثلاثة رماح ، أو رمح اثنان ثلاثة ، وقال : إن بيان الفرق ربما لا تفي به العبارة إلا مع الاستعانة بالسليقة ، ويمكن تقريب ذلك بأن يقال : إن الأوصاف المسرودة بغير عطف كالوصف الواحد وأما عطفها فيفيد أن كل واحد منها وصف مستقل . أقول : وعبارة البيضاوي " وتوسيط الواو بينها للدلالة على استقلال كل واحدة منها وكمالهم فيها ، أو لتغاير الموصوفين بها " وهي مبهمة ، وإيضاح الاستقلال ما قرأت آنفا . وأما تغاير الموصوفين [ ص: 209 ] بها فمعناه هنا أن الذين اتقوا أصناف فمنهم الصابرون ومنهم الصادقون إلخ . والمراد : الممتازون بالكمال في الصبر والصدق إلخ ، وذلك لا يقتضي أن يكون كل صنف عاريا من صفات الآخر ، وهذا ما ذهب إليه الرازي إذ قال : " وأظن - والعلم عند الله - أن من كانت معه واحدة من هذه الخصال دخل تحت المدح العظيم واستوجب هذا الثواب الجزيل " وعبارته لا تفيد اعتبار كمال كل صنف في وصفه وهو ما لا بد منه . والتحقيق أن الألفاظ المفردة يمتنع عطفها في مقام سردها مطلقا ; لأنها عند ذلك تكون بمثابة الأعداد التي تسرد : واحد ، اثنان ، ثلاثة ، أربعة إلخ . ولكنها إذا لم يرد سردها كأن ذكرت للحكم على مدلولاتها ابتداء فلا بد أن تجمع بالعطف . مثال الأول قوله - تعالى - : التائبون العابدون الحامدون السائحون [ 9 : 112 ] الآية . وقوله - تعالى - في سورة التحريم : أزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات [ 66 : 5 ] إلخ . فإن هذه أوصاف سردت للتعريف بها بعد الحكم على الموصوف ، ومثال الثاني : الآية التي نفسرها والحكم فيها على الموصوفين ابتداء ، ويتعين إذن أن تكون منصوبة على الاختصاص ، ومثلها : إنما الصدقات للفقراء والمساكين [ 9 : 60 ] إلخ . فإن المراد الحكم على مدلولات هذه الألفاظ ابتداء . ومن الفرق بين هذا القول وما قبله : أنه يمتنع على هذا أن تكون هذه الألفاظ نعوتا ( نحوية ) للذين اتقوا .

التالي السابق


الخدمات العلمية