صفحة جزء
( إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم )

[ ص: 117 ] قال الأستاذ : كان الذي تقدم بيانا من الله تعالى لصنفين من الناس لهم في القرآن هداية ولنفوسهم إلى الاهتداء به انبعاث .

( الأول من الصنفين ) : أولئك الذين يبلغهم لأول مرة ، وهم ممن يخشى الله ويهاب سلطانه ، وفي أصول اعتقادهم الإيمان بما وراء الحس على ما تقدم .

( والثاني ) : أولئك الذين آمنوا بما أنزل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وما أنزل من قبله ( وهذا الصنف قد يجتمع مع الذي قبله فيمن كانوا متقين مؤمنين بالغيب ، ثم آمنوا بالنبي وبما جاء به ، وقد يفترق الصنفان فيمن بقي إلى اليوم ولم تبلغه الدعوة ، وهو على تلك الأوصاف ، ومن الولد من آباء مؤمنين ثم صدق إيمانه بعد أن بلغ رشده وملك عقله ) .

أما هاتان الآيتان فقد بينتا حال طائفة ثالثة من الناس ، وهم الكافرون ، ثم يبين قوله تعالى: ( ومن الناس من يقول ) إلخ ، حال طائفة أخرى أخص منها وهم المنافقون الذين يظهر من أقوالهم وفي بعض أفعالهم أنهم مؤمنون ، ولكنهم في حقيقة أمرهم كافرون ، بل شر من الكافرين ( فهذه أقسام أربعة ينقسم إليها الناس إذا بلغهم القرآن ونظروا فيه ، ودعوا إلى الإيمان به والأخذ بهديه ) .

بين الله تعالى لنبيه أنه إذا كان يوجد في الناس من لا يؤمن بالقرآن ، فليس هذا عيبا وتقصيرا في هداية الكتاب ، وإنما العيب فيهم لا في الكتاب ؛ لأنه هداية كسائر الهدايات الطبيعية التي أعرض الناس وعموا عنها ( كهداية العقل والسمع والبصر ونحوها مما أكرم الله به هذا النوع البشري ، وقد يحكم الرجل بأن في العمل مضرة تلحق به ، ومع ذلك يعدل عن حكمه انتهازا للذة زينها له حسه أو وهمه ، ويأتي ذلك العمل على ما يعلم من سوء مغبته ، فاحتقار الرجل لعقل نفسه لا يعد عيبا في تلك الموهبة الإلهية ، ولا يحط من شأن النعمة فيها .

انظر إلى رجل يغمض عينيه ويمشي في طريق لا يعرفها فيسقط في حفرة وتتحطم عظامه ، هل ينقص ذلك من قدر بصره ، ويبخس من حق الله تعالى في الإحسان به على هذا الذي لم يرد أن يستعمله فيما خلق له ؟ ) ففي الكلام تسلية لأهل الحق ، وسيدهم هو النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فهو تسلية له أولا وبالأولى .

قوله تعالى : ( إن الذين كفروا ) أقول : هذا بيان لحال القسم الثاني من أقسام الناس تجاه هداية القرآن ، وقد قطعه وفصله مما قبله ، فلم يعطفه عليه للإشارة إلى ما بينهما من طول شقة الانفصال وعدم المشاركة في شيء ما ، بخلاف القسم الثالث الآتي ، فإن لهم حظا منه في الدنيا ولمن يتوب منهم حظ في الآخرة أيضا .

والكفر في اللغة : ستر الشيء وتغطيته وإخفاؤه ، ولذلك وصف به الليل والبحر [ ص: 118 ] والزراع في قوله تعالى : ( كمثل غيث أعجب الكفار نباته ) ( 57 : 20 ) لأنهم يغطون الحب بالتراب - وفعله من باب نصر ، وقال الفارابي وتبعه الجوهري من باب ضرب ، وهو خطأ كما في المصباح - ومن المجاز : كفر النعمة بعدم شكرها وذكرها تنويها بها ، وكذا الكفر بالله أو بوحدانيته وصفاته ، أو كتبه ورسله وما جاءوا به عن الله تعالى ، أي إنكاره وعدم التصديق به والإذعان له ، ولا سيما الشرك في عبادته ، كل ذلك من ضروب الستر والتغطية السلبية في الأمور المعنوية ، فهو مجاز لغة ، وحقيقة شرعية في معناه الشرعي المشار إليه آنفا ، والمراد بالذين كفروا هنا من علم الله تعالى أن الكفر رسخ في قلوبهم حتى فقدوا الاستعداد للإيمان .

وقال شيخنا : الكفر هنا عبارة عن جحود ما صرح الكتاب المنزل أنه من عند الله أو جحود الكتاب نفسه ، أو النبي الذي جاء به ، وبالجملة : ما علم من الدين بالضرورة ( بعدما بلغت الجاحد رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - بلاغا صحيحا ، وعرضت عليه الأدلة على صحتها لينظر فيها فأعرض عن شيء من ذلك وجحده عنادا أو تساهلا أو استهزاء ، نعني بذلك أنه لم يستمر في النظر حتى يؤمن ولم نسمع أن أحدا من الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - كفر أحدا بما وراء هذا ، فما عداه من الأفاعيل والأقاويل المخالفة لبعض ما أسند إلى الدين ولم يصل العلم بأنه منه إلى حد الضرورة - أي لم يكن سنده قطعيا كسند الكتاب - فلا يعد منكره كافرا إلا إذا قصد بالإنكار تكذيب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فمتى كان للمنكر سند من الدين يستند إليه فلا يكفر ( وإن ضعفت شبهته في الاستناد إليه ما دام صادق النية فيما يعتقد ، ولم يستهن بشيء مما ثبت بالقطع وروده عن المعصوم - صلى الله عليه وسلم - ) .

وقد تجرأ بعض المتأخرين على تكفير من يتأول بعض الظنيات ، أو يخالف شيئا مما سبق الاجتهاد فيه ، أو ينكر بعض المسائل الخلافية ، فجرءوا الناس على هذا الأمر العظيم ، حتى صاروا يكفرون من يخالفهم في بعض العادات ، وإن كانت من البدع المحظورات ( ثم هم على عقائد الكافرين ، وأخلاق المنافقين ، ويعملون أعمال المشركين ، ويصفون أنفسهم بالمؤمنين الصادقين ) .

الكافرون أقسام :

( منهم ) من يعرف الحق وينكره عنادا ، وهؤلاء هم الأقلون ولا ثبات لهم ولا قوام ، وكان منهم في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - جماعة من المشركين واليهود لم يلبثوا أن انقرضوا .

قال الأستاذ : كنت قلت في هذا المعنى كلمة جديرة بأن تحفظ وهي : " إن جحود الحق مع العلم به كاليقين في العلم ، كلاهما قليل في الناس " .

[ ص: 119 ] ( ومنهم ) من لا يعرف الحق ولا يريد ولا يحب أن يعرفه ، وهم الذين قال الله تعالى فيهم : ( إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون ) ( 8 : 22 - 23 ) فهؤلاء كلما صاح بهم صائح الحق فزعوا ونفروا ، وأعرضوا واستكبروا ، ففي أنفسهم شعور بالحق ولكنهم يجدون فيها زلزلة ، كلما لاح لهم شعاعه يحجبونه عن أعينهم بأيديهم ، وسبب ذلك : أنهم لم يستعملوا أنظارهم في فهم الحق ، ويخافون لو استعملوها أن ينقصهم شيء مما يظنونه خيرا ، ويتوهمونه معقودا بعقائدهم التي وجدوا عليها آباءهم وساداتهم .

( ومنهم ) : من مرضت نفسه واعتل وجدانه فلا يذوق للحق لذة ، ولا تجد نفسه فيه رغبة ، بل انصرف عنه إلى هموم أخر ملكت قلبه وأسرت فؤاده ، كالهموم التي غلبت أغلب الناس اليوم على دينهم وعقولهم ، وهي ما استغرقت كل ما توفر لديهم من عقل وإدراك ، واستنفدت كل ما يملكون من حول وقوة في سبيل كسب مال أو توفير لذة جسمانية ، أو قضاء شهوة وهمية ، فعمي عليهم كل سبيل سوى سبل ما استهلكوا فيه ، فإذا عرض عليهم حق ، أو ناداهم إليه مناد ، رأيتهم لا يفهمون ما يقول الداعي ، ولا يميزون بين ما يدعو إليه وبين ما هم عليه ، فيكون حظ الحق منهم الاستهزاء والاستهانة بأمره ، فإذا وعدهم أو أوعدهم النذير ، قالوا : لا نصدق ولا نكذب حتى ننتهي إلى ذلك المصير ، وهذا القسم كالذي قبله كثير العدد في الناس في كل زمان ومكان ، وخصوصا في الأمم التي يفشو فيها الجهل ، وتنطمس من أفرادها أعين الفطرة ، وتنضب من أنفسهم ينابيع الفضائل ، فيصبحون كالبهائم السائمة ، لا هم لهم إلا فيما يملأ بطونهم أو يداعب أوهامهم ، ويصح جمع هذين القسمين تحت قسم واحد ، وهو قسم المعرضين الجاحدين الجاهلين ، والقسم الأول هو قسم المعاندين المكابرين .

فكل من هذه الفرق : ( سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم ) الإنذار : الإخبار والإعلام بالشيء المقترن بالتخويف مما يترتب عليه من فعل يتضمن ذمه وطلب تركه ، أو ترك لأمر يتضمن مدحه وطلب فعله نصا أو اقتضاء ، والسواء : اسم مصدر بمعنى الاستواء ، والمعنى : أن الذين كفروا ولم يدخلوا في قسم المستعدين للإيمان لرسوخهم في الكفر ، يستوي [ ص: 120 ] الإنذار وعدمه بالنسبة إليهم في الواقع ، فالذي يعرض عن النور مع العلم به ويغمض عينيه كيلا يراه بغضا له لذاته أو تأذيا به ، أو عنادا وعداوة لمن دعاه إليه ماذا يفيده النور ؟

وماذا يعيب النور من إعراضه ؟ والذي لا يعرف النور ولا يحب أن يعرفه ؛ لأن فساد طبيعته وخبث تربيته أنآه عنه وأبعده ، وجعله يألف الظلمة كالخفاش ( أو أفسد الجهل وجدانه فأصبح لا يميز بين نور وظلمة ، ولا بين نافع وضار ، ولا بين لذيذ ومؤلم ، ماذا عساه يفيده النور مهما سطع أو يؤثر فيه الضوء مهما ارتفع ؟ ) .

( لا يؤمنون ) أقول : هذه جملة مفسرة لتساوي الإنذار وعدمه في حقهم لا في حقه - صلى الله عليه وسلم - وحق دعاة دينه ، فهم يدعون كل كافر إلى دين الله الحق ، لأنهم لا يميزون بين المستعد للإيمان وغير المستعد له إذ هو أمر لا يعلمه إلا الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية