صفحة جزء
ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم ما ، وهو خبر عيسى فقامت عليكم الحجة بأن منكم من غلا في الإفراط إذ قال : إنه إله ، ومنكم من غلا في التفريط إذ قال : إنه دعي كذاب ، ولم يكن علمكم القليل به عاصما لكم من الخطأ في الحكم عليه فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم وهو كون إبراهيم يهوديا أو نصرانيا ! أليس الواجب عليكم أن تتبعوا فيه ما يوحيه الله إلى عبده محمد - صلى الله عليه وسلم - والله يعلم وأنتم لا تعلمون ثم بين - تعالى - ما يعلم من أمره فقال : ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا أي مائلا عن كل ما كان عليه أهل عصره من الشرك والضلال مسلما وجهه إلى الله - تعالى - وحده مخلصا له الدين والطاعة وما كان من المشركين الذين يسمون أنفسهم الحنفاء ويدعون أنهم على ملة إبراهيم وهم قريش ومن وافقهم من العرب . وهذا من الاحتراس فقد كان أهل الكتاب يدعون العرب بالحنفاء ، حتى صار الحنيف عندهم بمعنى الوثني المشرك ، فلما وافقهم القرآن على إطلاق لفظ الحنيف على إبراهيم مستعملا له بالمعنى اللغوي ، احترس عما يوهمه الإطلاق من إرادة المعنى الاصطلاحي عندهم ، فصار معنى الآية : أن إبراهيم المتفق على إجلاله وادعاء دينه عند أهل الملل الثلاث لم يكن على ملة أحد منهم ، بل كان مائلا عن مثل ما هم عليه من الوثنية والتقاليد مسلما خالصا لله تعالى ، وليس المراد بكونه مسلما أنه كان على مثل ما جاء به محمد - صلى الله عليهما وعلى آلهما وسلم - من الشريعة بالتفصيل ، فإنه يرد على هذا أن هذه الشريعة جاءت من بعده كما كانت التوراة والإنجيل من بعده ، وإنما المراد أنه كان متحققا بمعنى الإسلام الذي يدل عليه لفظه وهو التوحيد والإخلاص لله في عمل الخير كما بينا ذلك بالتفصيل في تفسير إن الدين عند الله الإسلام [ 3 : 19 ] وهذا المعنى لا يستطيع أهل الكتاب إنكاره ; فإن ما في كتبهم عن إبراهيم لا يعدوه وما كان النبي يدعوهم إلا إليه ، وقد نسي أكثر [ ص: 272 ] المسلمين اليوم معنى الإسلام الذي يقرره القرآن ، وجمدوا على المعنى الاصطلاحي له فجعلوه جنسية غافلين عن كونه هداية روحية ، وما كان سلفهم الصالح كذلك .

إن أولى الناس بإبراهيم أي أجدرهم بولايته وأحراهم بموافقته للذين اتبعوه في عصره وأجابوا دعوته فاهتدوا بهديه وهذا النبي والذين آمنوا معه فإنهم أهل التوحيد المخلص الذي لا يشوبه اتخاذ الأولياء ولا التوسل بالوسطاء والشفعاء ، وأهل الإخلاص في الأعمال الذي لا يبطله شرك ولا رياء ، وهذا هو روح الإسلام والمقصود من الإيمان ، فمن فاته فقد فاته الدين كله لا تغني عنه التقاليد والرسوم ولا تنفعه الوسطاء والأولياء يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم [ 26 : 88 ، 89 ] بأخذه بحقيقة الإسلام الذي شرع لتنقية القلوب وتزكية النفوس وإعداد الأرواح في الدنيا إلى الدرجات العلا في الأخرى والله ولي المؤمنين الذين لا يتوجهون إلى غيره في كشف ضر ولا طلب نفع فهو يتولى أمورهم ويصلح شئونهم ، ويتولى إثابتهم على حسب تأثير الإسلام في قلوبهم ويزيدهم من فضله . فنسأله - تعالى - أن يجعلنا معهم في الدنيا والآخرة ، ولا يجعلنا من أهل الجمود على التقاليد الظاهرة الغافلين عن روح الإسلام المفتونين باتخاذ الأولياء والأمراء هذا وليس عندنا في هذه الآيات شيء عن الأستاذ الإمام وما قلناه موافق لطريقته .

التالي السابق


الخدمات العلمية