صفحة جزء
ثم وصف سبحانه فقدهم لهذا الاستعداد ، ورسوخهم في الكفر الذي لم يبق معه محل لغيره بهذا التعبير البليغ ( ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ) .

قال الراغب : الختم والطبع يقال على وجهين :

( الأول ) : مصدر ختمت وطبعت ، وهو تأثير الشيء كنقش الخاتم والطابع .

( الثاني ) : الأثر الحاصل عن النقش ، ويتجوز بذلك تارة في الاستيثاق من الشيء والمنع منه اعتبارا بما يحصل من المنع بالختم على الكتب والأبواب نحو : ( ختم الله على قلوبهم ) ( وختم على سمعه وقلبه ) - إلى أن قال - فقوله : ( ختم الله على قلوبهم ) . . . إشارة إلى ما أجرى الله به العادة أن الإنسان إذا تناهى في اعتقاد باطل وارتكاب محظور - ولا يكون منه تلفت بوجه إلى الحق - يورثه ذلك هيئة تمرنه على استحسان المعاصي ، وكأنما يختم بذلك على قلبه ، وعلى ذلك ( أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم ) ( 16 : 108 ) ا هـ .

المراد منه .

وأقول : إن مراده أن هذا التعبير مثل لمن تمكن الكفر في قلوبهم حتى فقدوا الدواعي والأسباب التي تعطفهم إلى النظر والفكر في أدلة الإيمان ومحاسنه ( ختم الله على قلوبهم ) فلا يدخلها غير ما رسخ فيها ، ( وعلى سمعهم ) فلا يسمعون آيات الله المنزلة سماع تأمل وتفقه ، وقوله : ( وعلى أبصارهم غشاوة ) جملة معطوفة على جملة ( ختم ) والغشاوة : ما يغطى به الشيء ، ومعنى هذه المادة : غ ش ي - التغطية . والمراد : أن أبصارهم لا تدرك آيات الله المبصرة الدالة على الإيمان ، فكل من الفريقين لا يرجى إيمانه ، وقد أسند الختم على قلوبهم وعلى سمعهم إلى الله تعالى ؛ لأنه بيان لسنته تعالى في أمثالهم ، وعبر عنه بالماضي للدلالة على أنه أمر قد فرغ منه ، وهو لا يدل على أنهم مجبورون على الكفر ، ولا على منع الله تعالى إياهم منه بالقهر ، وإنما هو تمثيل لسنته تعالى في تأثير تمرنهم على الكفر وأعماله في قلوبهم بأنه استحوذ عليها

[ ص: 121 ] وملك أمرها حتى لم يعد فيها استعداد لغيره ، كما تقدم مثله عن الراغب ، ويوضح ما قلناه قوله تعالى في سورة المنافقين : ( ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم ) ( 63 : 3 ) وقوله في اليهود من سورة النساء : ( فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا ) ( 4 : 155 ) فذكر أن الطبع على قلوبهم إنما هو بسبب كفرهم وتلك المعاصي التي أسندها إليهم ، وقوله تعالى في سورة الجاثية : ( أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون ) ( 45 : 23 ) فقد ذكر من فعله المسند إليه : أنه اتخذ إلهه هواه ، ومن صار هواه معبوده لا يفيد معه شيء .

وقد صرح هنا بأن الغشاوة على بصره من جعل الله تعالى ، ولم يصرح في آية البقرة التي نفسرها ، والمعنى واحد ، ولشيخنا الأستاذ الإمام دقائق في هذه التعبيرات ادخرها الله تعالى له وهي مع هذا تغنيك عن تماري الأشعرية والمعتزلة في الآيات تعصبا لمذاهبهم وقال :

يقولون : إن الختم والطبع والرين ألفاظ تجري على شيء واحد ، وهو : تغطية الشيء والحيلولة بينه وبين ما من شأنه أن يدخله ويمسه ، والقلوب مراد بها العقول . والمراد بالسمع : الأسماع ، وإفراده لأن أصله مصدر ، ومن شأن المصادر ألا تجمع ، وقد لوحظ هنا الأصل ، والأبصار : العيون التي تدرك المبصرات من الأشكال والألوان .

( قال ) : وأنا أرى في مسألة هذا الجمع والإفراد رأيا آخر ، إذ لو صح ما قيل فإن البصر أيضا مصدر فلماذا جمعه ؟ والذي أراه أن العقل له وجوه كثيرة في إدراك المعقولات ، فليس الناس فيه سواء فجمع لاختلاف الناس فيه ، وأنواع تصرفهم في وجوهه بخلاف السمع ، فإن أسماع الناس تتساوى في إدراك المسموعات ، فلا تتشعب تشعب العقول في إدراك المعقولات ، وأما الأبصار : فهي مثل العقول في التشعب ، وأعظم معين للعقول في إدراكها ؛ لأن أنواع المبصرات كثيرة فتعطي للعقل مواد كثيرة ، والسمع لا يدرك إلا الصوت ، وليس في الكلام عند النقل طريق من طرق العلم اليقيني إلا التواتر ( بخلاف ما نقطع فيه بالضرورة من طريق العقل والبصر ، فهو كثير ، فالأوليات كالحكم أن الجزء أصغر من الكل وأن النقيضين لا يجتمعان ولا يرتفعان ، والقضايا التي [ ص: 122 ] قياساتها معها من المعقولات المحضة ، والتجريبيات والحدسيات يشترك فيها العقل والبصر ، والقسم الأعظم من المشاهدات سبيل الإدراك فيه البصر ، فالعقول والأبصار بمنزلة ينابيع كثيرة تنبجس من كل منها عيون للعلم مختلفة ، بخلاف السمع فإنه ينبوع واحد لا اختلاف فيما يصدر عنه ) فالحاصل : أن العقول والأبصار تتصرف في مدركات كثيرة فكأنها صارت بذلك كثيرة فجمعت ، وأما السمع فلا يدرك إلا شيئا واحدا فأفرد .

سأله سائل : كيف هذا ، وقد قالوا : إن السمع أفضل من البصر ؟ فقال : أنا لا أتكلم في التفضيل ، ذلك إلى الله ورسوله ، وإنما أشرح موجودا وأبين مناسبة اللفظ له ، ( وإن المشاهدة قاضية بأن العقل لا منتهى لتصرفه ، وبأن أقل ما قيل في البصر : إنه يدرك الألوان ، والأشكال ، والمقادير . والسمع : لا يدرك إلا الأصوات فقط ، كما أن الذوق لا يحس إلا بالمذوقات وحدها ، وإن كان ما يصل من طريق السمع قد يتضمن حكاية عن معقول أو مبصر ، ولكن وروده على الحكاية لا يغير من حقيقته ، فهو معقول أو مبصر ، فمن ذكر لك برهانا على حقيقة علمية فإنما تسمع منه الأصوات والحروف ، وأما فهمك المقدمات ووصولك منها إلى النتائج فهو من طريق عقلك لا من طريق سمعك ، فإن كان حديث الأفضلية يستند إلى أن جميع المدركات قد يمكن أن يعبر عنها بالكلام - وهو مسموع - فقد بينا لك ما فيه ، ويعارضه أن جميع ضروب الكلام يصح أن تكتب ، وطريق فهمها من الرقم إنما هو البصر ، والحق : أن المعول عليه في تعدد الطريق ليس ما يكون من قبيل الحكاية ، بل ما يكون من طبيعة القوة ) .

وأما انطباق الكلام على تلك الأقسام السابقة وبيان حرمانهم وكونهم كما وصفوا - فهو بالنسبة إلى الطائفة التي عاندت الحق وهي تعرفه - ظاهر ، لأنهم لما عاندوا الحق ؛ لأنه لم يأت على أيديهم ( فقد طبع على قلوبهم بطابع ذلك العناد نفسه ، فإنه قد حيل بين عقولهم وإدراك ما يصيرون إليه بالإصرار على الباطل من ضعف أمر وفساد حال في الدنيا ، وشقاء وخلود في نكال الآخرة ، ثم هم قد حجبوا به عن إدراك ما يتبع ) ذلك الحق من المعارف والحقائق الأخرى ، فقد ختم على قلوبهم بالنسبة إلى ما حجبوا عنه .

[ ص: 123 ] وأما الختم على سمعهم ، فلأنهم صموا عن سماع الحق واستماع القول لفهمه ، فمن أعرض عن فهم الحق فهو لم يسمع إلا صوتا لم ينفذ شيء من معناه إلى موضع الإدراك الحقيقي منه ، فقد ختم على سمعه فلا ينفذ إليه شيء ينتفع به .

وأما الأبصار فإنما كانت عليها غشاوات عند هؤلاء الجاحدين ؛ لأن فائدة البصر : هي التوقي من الخطر ، والعبرة بما يبصر ، فمن لم ينظر في الآيات الكونية التي تقع تحت بصره كل يوم كأنه لم يبصر شيئا منها ، فقد ضرب على بصره بغشاوة ، ( وأما بالنسبة إلى القسمين الآخرين اللذين جمعا تحت قسم واحد ، وهو قسم المعرضين الجاحدين الجاهلين كما سبق ، فالختم على القلوب والسمع والأبصار ظاهر ، لأنهم لم ينتفعوا بشيء من هذه القوى حتى في فهم ما يعرض عليهم ، ورؤية ما يقع تحت حواسهم ) والكلام كله ضرب من التمثيل يعرفه اللسان وتعهده اللغة ، والمعنى هو ما بينا والله أعلم . ( ولما كان حديث الختم تمثيلا لفقد حقيقة الفهم والحرمان من فوائد تلك المواهب الإلهية - مواهب العقل والسمع والإبصار - كان إسناده إلى الله تأكيدا لمعنى الحرمان ، وتقديرا لمصيبة الخسران ؛ لأن ما ختم بيد الله لا تفضه يد سواه ) .

وأما النكتة في استعمال الختم مع القلوب والسمع ، والغشاوة مع البصر : فهي أن الختم من شأنه أن يكون على المكنون المستور ، وهكذا موضع حس السمع ، وموضع الإدراك من العقل ، والأسماع في ظاهر الخلقة ، وأما البصر فالحاسة منه ظاهرة منكشفة ( قال ) : ومثل هذه الدقائق هي المرادة بقول صاحب التلخيص : " ولكل كلمة مع صاحبتها مقام " .

( ولهم عذاب عظيم ) أقول : العذاب اسم لما يؤلم ويذهب بعذوبة الحياة من ضرب ووجع وجوع وظمأ . قال الراغب : واختلف في أصله ، فقال بعضهم : هو من قولهم : عذب الرجل إذا ترك المأكل ( زاد غيره : من شدة العطش ) والنوم ، فهو عاذب وعذوب ، فالتعذيب في الأصل : هو حمل الإنسان أن يعذب ، أي يجوع ويسهر ، وقيل : أصله من العذب ، فعذبته : أزلت عذب حياته ، على بناء : مرضته وقذيته ، وقيل أصل التعذيب : إكثار الضرب بعذبة السوط أي طرفه ا هـ .

وقال البيضاوي : العذاب كالنكال بناء ومعنى ، تقول : أعذب عن الشيء ونكل عنه إذا أمسك ، ومنه الماء العذب ؛ لأنه يقمع العطش ويردعه ، ولذلك يسمى نقاخا وفراتا ثم اتسع فأطلق على كل ألم فادح وإن لم يكن عقابا يردع الجاني عن المعاودة إلخ .

والعظيم : ضد الحقير ، فهو فوق الكبير الذي هو ضد الصغير ، وتنكير العذاب هنا

[ ص: 124 ] للإشارة إلى أنه نوع منه مبهم مجهول عند أهل الدنيا ، بناء على أن المراد به عذاب الآخرة التي هي من عالم الغيب .

وقال شيخنا تبعا للجمهور : التنكير فيه للتعظيم والتهويل ، ووصفه مع ذلك بعظيم يدل على أنه بالغ حد العظمة كما وكيفا ، فهو شديد الإيلام وطويل الزمان ، وهل هذا العذاب في الدنيا أم في الآخرة ؟ قال في آية أخرى ( لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم ) ( 5 : 41 ) فيؤخذ من هذه الآية ومن آيات أخرى : أن الإعراض عن هدي الإسلام ، وما أرشد إليه من إصلاح المعاش والمعاد جزاؤه الضنك وفقد العزة والسلطة في الدنيا والعذاب العظيم في العقبى .

وهنا سأله سائل : هل الآية نص في التكليف بالمحال ؟ فقال : لا ، وأنا لا أحب أن أحشر المسائل الخلافية في تفسير القرآن ، بل أحب أن أبين المعنى الذي كان يفهمه الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - ، وما كان يخطر على بال أحد منهم التكليف بالمحال ، على أن الاتفاق واقع بين الأئمة بل بين الأمة على أن التكليف بالمحال غير واقع ، وأن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها كما صرح به الكتاب وتضافرت عليه الأحاديث النبوية ، فما بقي من مواضع الخلاف لا يمس نصوص الكتاب العزيز الذي ( لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ) ( 41 : 42 ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية