صفحة جزء
( في قلوبهم مرض ) عهد عند العرب التعبير عن العقول بالقلوب ، والمرض هو ما يطرأ على العقول فيضعف تعلقها وإدراكها ، والشك والوهم من أعراض هذا المرض ، فهو ظلمة تعرض للعقل فتقف بشعاعه أن ينفذ إلى ما وراء التكاليف والأحكام من الأسرار والحكم . وهذا النفوذ : هو الفقه في الدين الذي يسوق النفس إلى الأخذ به ظاهرا وباطنا ، وقد عبر القرآن عن فقد أمثال هؤلاء لهذا بقوله : ( لهم قلوب لا يفقهون بها ) ( 7 : 179 ) وربما كان التعبير عن العقول بالقلوب في مثل هذا المقام ؛ لأن القلب يظهر فيه أثر الوجدان الذي هو السائق إلى الأعمال ( يظهر لك ذلك بما تجده من اضطراب قلبك عند اشتداد الخوف أو اشتداد الفرح ، فإنك تحس بزيادة ضرباته وشدة نبضاته ) فصورة الاعتقاد إذا تناولها العقل من طريق التقليد والتسليم فجعلها في زاوية من زوايا الدماغ ، ولم يكن لها سلطان على القلب ولا تأثير في الوجدان ، واعتقاد لا يصحبه هذا السلطان ولا يصدر عنه هذا التأثير ، لا يعتد الله تعالى به ولا يستفيد الإنسان منه - كما تقدم آنفا - فمن لم يطرق الإيمان قلبه بقوة البرهان ولم يحل مذاقه منه في الوجدان ، بحيث يكون هو المصرف له في أعماله ، لا ينفعه إيمانه إلا إذا تمرن على الأعمال الصالحة عن فهم وإخلاص ، حتى يحدث لقلبه الوجدان الصالح ، فأهل اليقين يبعثهم يقينهم على العمل الصالح ، وأهل التقليد تلحقهم أعمالهم الصالحة بأهل اليقين في الانتفاع بإيمانهم ، وهذا الفريق الذي تحكي عنه الآيات وتصفه بالكذب والخداع ، قد فقد الأمرين معا ، ولا صحة للقلب إلا بهما ، فمن فقدهما مرض ولا يلبث مرضه أن يقتله .

[ ص: 130 ] قال الأستاذ الإمام ما معناه : ولضعف العقل أسباب :

منها : ما هو فطري كما هو حال أهل البله والعته ، وهو الذي لا يكلف صاحبه ولا يلام .

ومنها : ما يكون من فساد التربية العقلية كما هو حال المقلدين الذين لا يستعملون عقولهم ، وإنما يكتفون بما عليه قومهم من الأوهام والخيالات ، ويرين على قلوبهم ما يكسبونه من السيئات ، وما يكونون عليه من التقاليد والعادات ، ولا يعتنون بما أمر الله به من تمزيق هذه الحجب وإزالة هذه السحب ، للوقوف على ما وراءها من مخدرات العرفان ونجوم الفرقان وشموس الإيمان ، بل يكتفون بما حكى الله عنهم في قوله : ( إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون ) ( 43 : 23 ) حتى يجيء اليوم الذي يقولون فيه :

( ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيل ) ( 33 : 67 ) .

وأقول : إن المرض في أصل اللغة : خروج البدن عن اعتدال مزاجه وصحة أعضائه فيختل به بعض وظائفها وأعمالها ، وتعرض الآلام لها ، ويطلق مجازا على اختلال مزاج النفس ، وما يخل بكمالها من نفاق وجهل ، وارتياب وشك ، وغير ذلك من فساد الاعتقاد الحق ، واضطراب حكم العقل وفساد الخلق ، والمرض هنا من النوع الثاني كما تقدم آنفا ، وخصه شيخنا بمنافقي اليهود ، فقال ما معناه : كان في قلوبهم مرض قبل مجيء النذير وبيان الرشد من الغي عندما كانوا في فترة حظهم من الكتب قراءة ألفاظها ، ومن الأعمال إقامة صورها .

( فزادهم الله مرضا ) بعد ما جاءهم البرهان المنير ببعثة البشير النذير ، ووجدوا منه زعزعة في أنفسهم ، ولكن أخذتهم العزة بالإثم فأبوا الإيمان ، ونبوا عن القرآن ( وزاد تمسكهم بما كانوا عليه واشتد حرصهم عليه ) فكان شعاع النور الذي جاء به الرسول عمى في أعينهم ، ومرضا على مرضهم .

( ولهم عذاب أليم ) أي عذاب مؤلم فوق هذه الأمراض ، و " أليم " صيغة فعيل من ألم يألم فهو أليم ، وصف به العذاب نفسه .

( بما كانوا يكذبون ) ( في دعواهم الإيمان بالله واليوم الآخر ، فإنهم لم يصدقوا بأعمالهم ما يزعمونه من حالهم ) .

أقول : وأما مرض منافقي المدينة من العرب فهو الشك في نبوته - صلى الله عليه وسلم - كما روي عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما ، وعن الأول : أنه النفاق ، وعن بعض تلاميذه : الرياء ، وحسبك في زيادة مرضهم قوله تعالى : ( وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا ) إلى قوله ( وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون ) ( 9 : 124 - 125 ) .

أقول : قرأ عاصم وحمزة والكسائي ( يكذبون ) بالتخفيف أي بسبب كذبهم ، [ ص: 131 ] وقرأ الباقون ( يكذبون ) بالتشديد ، أي ولهم عذاب أليم بسبب تكذيبهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ، والحكمة في القراءتين : إثبات جمعهم للرذيلتين ، أي الكذب في دعوى الإيمان وتكذيب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، والثانية سبب الأولى ، وهم إنما كانوا يكذبونه في أنفسهم ، وفيما بينهم إذا خلوا إلى شياطينهم ، والعذاب عقوبة عليهما معا ، أي على التكذيب وهو الكفر ، وعلى الكذب في دعوى الإيمان وهو النفاق ، وهؤلاء في باطنهم شر من الذين كفروا عنادا من رؤساء قريش ، فإنهم لم يكونوا يكذبونه - صلى الله عليه وسلم - وإنما كانوا يجحدون جحود استكبار ، قال تعالى : ( فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ) ( 6 : 33 ) .

قال شيخنا : والقراءة الأولى هي المشهورة والعذاب فيها مقرون بالكذب لا بالتكذيب . وقد يقال : لم جعل العذاب جزاء الكذب دون الكفر ؟ والجواب : أن الكفر داخل في هذا الكذب ، وإنما اختير لفظ الكذب في التعبير للتحذير عنه ، وبيان فظاعته وعظم جرمه ، ولبيان أن الكفر من مشتملاته وينتهي إليه في غاياته ، ولذلك حذر القرآن منه أشد التحذير ، وتوعد عليه أسوأ الوعيد ، وما فشا الكذب في قوم إلا فشت فيهم كل جريمة وكبيرة ؛ لأنه ينشأ من دناءة النفس وضعف الحياء والمروءة ، ومن كان كذلك لا يترك قبيحا إلا بالعجز عنه ، ونعوذ بالله تعالى من عمله ومنه . ا هـ . بالمعنى ، وقد علمت أن السؤال لا يرد إلا على قراءة التشديد .

التالي السابق


الخدمات العلمية