صفحة جزء
ثم ذكر جزاء المتقين بعد الأمر المؤكد باتقاء النار اتباعا للوعيد بالوعد وقرنا للترهيب بالترغيب كما هي سنته فقال : وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين المسارعة إلى المغفرة والجنة هي المبادرة إلى أسبابها وما يعد الإنسان لنيلهما من التوبة عن الإثم كالربا والإقبال على البر كالصدقة . وقرأ نافع وابن عامر " سارعوا " بغير واو . والمراد بكون عرض الجنة كعرض السماوات والأرض المبالغة في وصفها بالسعة والبسطة تشبيها لها بأوسع ما علمه الناس ، وخص العرض بالذكر لأنه يكون عادة أقل من الطول . وقال البيضاوي : إن هذا الوصف على طريقة التمثيل . وقال في قوله : أعدت للمتقين : هيئت لهم ، وفيه دليل على أن الجنة مخلوقة وأنها خارجة عن هذا العالم اهـ .

وهو ما احتج به الأشاعرة على من قال من المعتزلة : إنها ليست بمخلوقة الآن كما في كتب العقائد . قال الأستاذ الإمام : وقد اختلفوا في الجنة هل هي موجودة بالفعل أم توجد بعد في الآخرة ؟ ولا معنى لهذا الخلاف ولا هو مما يصح التفرق واختلاف المذاهب فيه ، ثم وصف المتقين بالصفات الخمس الآتية فقال :

الذين ينفقون في السراء والضراء أي في حالة الرخاء والسعة وحالة الضيق والعسرة ، كل حالة بحسبها كما قال - تعالى - في بيان حقوق النساء المعتدات : لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها [ 65 : 7 ] والسراء من السرور أي الحالة التي تسر ، والضراء من الضرر أي الحالة الضارة ، وروي عن ابن عباس تفسيرهما باليسر والعسر .

وقد بدأ وصف المتقين بالإنفاق لوجهين :

( أحدهما ) مقابلته بالربا الذي نهي عنه في الآية السابقة ; فإن الربا هو استغلال الغني حاجة المعوز وأكل ماله بلا مقابل ، والصدقة إعانة له وإطعامه ما لا يستحقه فهي ضد الربا ، ولم يرد في القرآن ذكر الربا إلا وقبح ومدحت معه الزكاة والصدقة كما قال في سورة الروم :

وما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربو عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون [ 30 : 39 ] وفي سورة البقرة : يمحق الله الربا ويربي الصدقات [ 2 : 276 ] .

( ثانيهما ) أن الإنفاق في السراء والضراء أدل على التقوى وأشق على النفوس وأنفع للبشر من سائر الصفات والأعمال ، قال الأستاذ الإمام ما مثاله : إن المال عزيز على النفس لأنه الآلة لجلب المنافع والملذات ، ودفع المضار والمؤلمات ، وبذله في طرق الخير والمنافع [ ص: 110 ] العامة التي ترضي الله - تعالى - يشق على النفس ، أما في السراء فلما يحدثه السرور والغنى من الأشر والبطر والطغيان وشدة الطمع وبعد الأمل ، وأما في الضراء فلأن الإنسان يرى نفسه فيها جديرا بأن يأخذ ومعذورا إن لم يعط وإن لم يكن معذورا بالفعل ، إذ مهما كان فقيرا لا يعدم وقتا يجد فيه فضلا ينفقه في سبيل الله ولو قليلا ، وداعية البذل في النفس هي التي تنبه الإنسان إلى هذا العفو الذي يجده أحيانا ليبذله ، فإن لم تكن الداعية موجودة في أصل الفطرة فأمر الدين الذي وضعه الله لتعديل الفطرة المائلة وتصحيح مزاج المعتلة يوجدها ويكون نعم المنبه لها ، وقد فسر بعضهم الضراء بما يخرج الفقراء من هذه الصفة من صفات المتقين وليس بسديد .

يقول من لا علم عنده : إن تكليف الفقير والمسكين البذل في سبيل الله لا معنى له ولا غناء فيه وربما يقول أكثر من هذا - يعني أنه ينتقد ذلك من الدين ، والعلم الصحيح يفيدنا أنه يجب أن تكون نفس الفقير كريمة في ذاتها وأن يتعود صاحبها الإحسان بقدر الطاقة ، وبذلك ترتفع نفسه وتطهر من الخسة وهي الرذيلة التي تعرض للفقراء فتجرهم إلى رذائل كثيرة ، ثم إن النظر يهدينا إلى أن القليل من الكثير كثير ، فلو أن كل فقير في القطر المصري مثلا يبذل في السنة قرشا واحدا لأجل التعليم لاجتمع من ذلك ألوف الألوف وتيسر به عمل في البلاد كبير ، فكيف إذا أنفق كل أحد على قدره ، كما قال - تعالى - : لينفق ذو سعة من سعته إلخ .

إذا كان الله - تعالى - قد جعل الإنفاق في سبيله علامة على التقوى أو أثرا من آثارها حتى في حال الضراء ، وكان انتفاؤه علامة على عدم التقوى التي هي سبب دخول الجنة ، فكيف يكون حال أهل السراء الذين يقبضون أيديهم ؟ وهل يغني عن هؤلاء من شيء أداء الرسوم الدينية الظاهرة التي يتمرنون عليها عادة مع الناس ؟

2 - والكاظمين الغيظ قال الراغب : الغيظ أشد الغضب وهو الحرارة التي يجدها الإنسان من فوران دم قلبه . وقال الأستاذ الإمام : الغيظ ألم يعرض للنفس إذا هضم حق من حقوقها المادية كالمال ، أو المعنوية كالشرف ، فيزعجها إلى التشفي والانتقام ، ومن أجاب داعي الغيظ إلى الانتقام لا يقف عند حد الاعتدال ولا يكتفي بالحق بل يتجاوزه إلى البغي ; فلذلك كان من التقوى كظمه ، وفي روح المعاني : إن الغيظ هيجان الطبع عند رؤية ما ينكر ، والفرق بينه وبين الغضب على ما قيل أن الغضب يتبعه إرادة الانتقام ألبتة ولا كذلك الغيظ ، وقيل : الغضب ما يظهر على الجوارح والغيظ ليس كذلك اهـ .

والاقتصار في سبب الغيظ على رؤية ما ينكر غير مسلم ، وأما الكظم فقد قال في الأساس : كظم البعير جرته ازدردها وكف عن الاجترار . . وكظم القربة ملأها وسد رأسها ، وكظم [ ص: 111 ] الباب سده . وهو كظام الباب لسداده . ومن المجاز كظم الغيظ ، وعلى الغيظ ، فهو كاظم .

وكظمه الغيظ والغم : أخذ بنفسه فهو مكظوم وكظيم إذ نادى وهو مكظوم [ 68 : 48 ] ظل وجهه مسودا وهو كظيم [ 16 : 58 ] و : ما كظم فلان على جرته : إذا لم يسكت على ما في جوفه حتى تكلم به . و : غمني وأخذ بكظمي ، وهو مخرج النفس وبأكظامي اهـ .

وقال الأستاذ الإمام : أصل الكظم مخرج النفس ، والغيظ وإن كان معنى له أثر في الجسم يترتب عليه عمل ظاهر ، فإنه يثور بنفس الإنسان حتى يحمله على ما لا يجوز من قول أو فعل .

فلذلك سمى حبسه وإخفاء أثره كظما . وقال الزمخشري في الكشاف بعد الإشارة إلى أصل معنى الكظم : ومنه كظم الغيظ وهو أن يمسك على ما في نفسه منه بالصبر ولا يظهر له أثرا .

ويروى عن عائشة أن خادما لها غاظها فقالت : " لله در التقوى ما تركت لذي غيظ شفاء " .

3 - والعافين عن الناس العفو عن الناس : هو التجافي عن ذنب المذنب منهم وترك مؤاخذته مع القدرة عليها ، وتلك مرتبة في ضبط النفس والحكم عليها وكرم المعاملة قل من يتبوأها ، فالعفو مرتبة فوق مرتبة كظم الغيظ ، إذ ربما يكظم المرء غيظه على حقد وضغينة .

4 - وهناك مرتبة أعلى منهما وهي ما أفاده قوله - تعالى - : والله يحب المحسنين فالإحسان وصف من أوصاف المتقين ، ولم يعطفه على ما سبقه من الصفات بل صاغه بهذه الصيغة تمييزا له بكونه محبوبا عند الله - تعالى - لا لمزيد مدح من ذكر من المتقين المتصفين بالصفات السابقة ، ولا مجرد مدح المحسنين الذي يدخل في عمومه أولئك المتقون كما قيل - فالذي يظهر لي هو ما أشرت إليه من أنه وصف رابع للمتقين كما يتضح من الواقعة الآتية : يروى أن بعض السلف غاظه غلام له فجأة غيظا شديدا فهم بالانتقام منه فقال الغلام : والكاظمين الغيظ فقال : كظمت غيظي ، قال الغلام : والعافين عن الناس قال : عفوت عنك ، قال : والله يحب المحسنين قال : اذهب فأنت حر لوجه الله . فهذه الواقعة تبين لك ترتب المراتب الثلاث .

5 - والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ؟ الفاحشة : الفعلة الشديدة القبح ، وظلم النفس : يطلق على كل ذنب ، قال البيضاوي : " وقيل : الفاحشة: الكبيرة ، وظلم النفس: الصغيرة ، ولعل الفاحشة ما تتعدى ، وظلم النفس ما ليس كذلك " وذكر الله عند الذنب يكون بتذكر نهيه ووعيده أو عقابه أو تذكر عظمته وجلاله ، وهما مرتبتان : مرتبة دنيا لعامة المؤمنين المتقين المستحقين للجنة ، وهي أن يتذكروا عند الذنب النهي والعقوبة فيبادروا إلى التوبة والاستغفار ، ومرتبة عليا لخواص المتقين وهي أن يذكروا - إذا فرط منهم ذنب - ذلك المقام الإلهي الأعلى المنزه عن النقص الذي هو مصدر كل كمال ، وما يجب من طلب قربه بالمعرفة والتخلق الذي هو منتهى الآمال ، فإذا هم تذكروا انصرف عنهم طائف الشيطان ، ووجدوا نفس الرحمن ، [ ص: 112 ] فرجعوا إليه طالبين مغفرته ، راجين رحمته ، ملتزمين سنته ، واردين شرعته ، عالمين أنه لا يغفر الذنوب سواه ، وأنه يضل من يدعون عند الحاجة إلا إياه ; لأن الكل منه وإليه ، وهو المتصرف بسننه فيه ، والحاكم بسلطانه عليه ، وقال الأستاذ الإمام : أعيد الموصول لإفادة التنويع ، فهؤلاء نوع من المتقين غير الذين ينفقون في السراء إلخ . ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون لا يصر المؤمن المتقي من أهل الدرجة الدنيا على ذنبه وهو يعلم أن الله - تعالى - نهى عنه وتوعد عليه ، ولا يصر كذلك بالأولى صاحب الدرجة العليا من أهل الإيمان والتقوى ، وهو يعلم أن الذنوب فسوق عن نظام الفطرة السليمة ، واعتداء على قانون الشريعة القويمة وبعد عن مقام النظام العام الذي يعرج عليه البشر إلى قرب ذي الجلال والإكرام ، ومثال ذلك : من يخضع لقوانين الحكام الوضعية خوفا من العقوبة ، ومن يخضع لها احتراما للنظام ، وما أبعد الفرق بين الفريقين . قالت رابعة العدوية رحمها الله - تعالى - :


كلهم يعبدون من خوف نار ويرون النجاة حظا جزيلا     أو لأن يسكنوا الجنان فيحظوا
بقصور ويشربوا سلسبيلا     ليس لي في الجنان والنار حظ
أنا لا أبتغي سواك بديلا



فالآية هادية إلى أن المتقين الذين أعد الله لهم الجنة لا يصرون على ذنب يرتكبونه صغيرا كان أو كبيرا ; لأن ذكره - عز وجل - يمنع المؤمن بطبيعته أن يقيم على الذنب . وقد بينا في مواضع كثيرة من التفسير أن الإيمان والعمل بمقتضاه متلازمان ، وقد قالوا إن الإصرار على الصغيرة يجعلها كبيرة ، وهذا أقل ما يقال فيها ، ورب كبيرة أصابها المؤمن بجهالة وبادر إلى التوبة منها - فكانت دائما مذكرة له بضعفه البشري وسلطان الغضب أو الشهوة عليه ، ووجوب مقاومة هذا السلطان طلبا للكمال بالقرب من الرحمن ، خير من صغيرة يقترفها المرء مستهينا بها مصرا عليها فتأنس نفسه بالمعصية ، وتزول منها هيبة الشريعة ، فيتجرأ بعد ذلك على الكبائر فيكون من الهالكين ، ورأيت المفسرين يوردون هنا حديث ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة وهو حديث ضعيف رواه أبو داود والترمذي عن أبي بكر - رضي الله عنه - . ومن الجاهلين من يراه فيغتر به ظانا أن الاستغفار باللسان كاف في التوبة ومنافاة الإصرار ، وأن الحديث كالمفسر للآية فيتجرأ على المعصية وكلما أصاب منها شيئا حرك لسانه بكلمة " أستغفر الله " مرة أو مرات وربما عد مائة أو أكثر واعتقد أن ذلك كفارة له ، والصواب أن الاستغفار في الحديث عبارة عن التوبة لا عن كون اللفظ كفارة . على أنه لا حجة فيه لضعفه . وراجع بحث الاستغفار في تفسير قوله - تعالى - : والمستغفرين بالأسحار [ 3 : 17 ] وأما الآية فقد فهمت معناها وأنها جعلت كلا من [ ص: 113 ] الاستغفار وعدم الإصرار أثرا طبيعيا لذكر الله - عز وجل - بالمعنى بيناه لأهل المرتبتين من المتقين ، وحاسب نفسك هل تجدك من الذاكرين ؟

أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها يعني بقوله : أولئك المتقين الموصوفين بما تقدم من الصفات الخمس وفيه تأكيد للوعد وتفصيل ما للموعود به . وقيل : هو خبر لقوله : والذين إذا فعلوا فاحشة إلخ . بناء على أنهم قسم مستقل وأن الذين مبتدأ ، لا معطوف على ما قبله . وقد تقدم تفسير جنات تجري من تحتها الأنهار [ 2 : 25 ] فلا نعيده . وأما قوله - عز وجل - : ونعم أجر العاملين فهو نص في أجزاء إنما هو على تلك الأعمال التي منها ما هو إصلاح لحال الأمة كإنفاق المال ، ومنها ما هو إصلاح لنفس العامل ، وكلها مما يرقي النفس البشرية ، حتى تكون أهلا لتلك المراتب العلية ، أي ونعم ذلك الجزاء الذي ذكر من المغفرة والجنات أجرا للعاملين تلك الأعمال البدنية كالإنفاق ، والنفسية كعدم الإصرار ، وإن كانوا يتفاوتون فيه لتفاوتهم في التقوى والأعمال .

التالي السابق


الخدمات العلمية