صفحة جزء
القسم الثاني : ما حرم من جهة الرضاعة وهو أنواع كالنسب بينها - تعالى - بقوله وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة فسمى المرضعة أما للرضيع ، وبنتها أختا له ، فأعلمنا بذلك أن جهة الرضاعة كجهة النسب تأتي فيها الأنواع التي جاءت في النسب كلها ، وقد فهم ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال لما أريد على ابنة عمه حمزة ، أي أن يتزوجها : إنها لا تحل لي ، إنها ابنة أخي من الرضاعة ، ويحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب رواه الشيخان من حديث ابن عباس ، ورويا من حديث عائشة عنه - صلى الله عليه وسلم - ، أنه قال : إن الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة وفي صحيحهما أيضا أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لها : ائذني لأفلح أخي أبي القعيس فإنه عمك وكانت امرأته أرضعت عائشة . وعلى هذا جرى جماهير المسلمين جيلا بعد جيل ، فجعلوا زوج المرضعة أبا للرضيع تحرم عليه أصوله ، وفروعه ، ولو من غير المرضعة ; لأنه صاحب اللقاح الذي كان سبب اللبن الذي تغذى منه أي الرضيع ، فروي عن ابن عباس أنه سئل عن رجل له جاريتان أرضعت إحداهما [ ص: 384 ] جارية ( أي بنتا ) ، والأخرى غلاما ، أيحل للغلام أن يتزوج الجارية ؟ " قال : لا ! اللقاح واحد " رواه البخاري في صحيحه ، ولولا هذه الأحاديث لما فهمنا من الآية إلا أن التحريم خاص بالمرضعة ، وينتشر في أصولها ، وفروعها لتسميتها أما ، وتسمية بنتها أختا ، ولا يلزم من ذلك أن يكون زوجها أبا من كل وجه بأن تحرم جميع فروعه من غير المرضعة على ذلك الرضيع ، كما أن تسمية أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - أمهات المؤمنين لا يترتب عليه جميع الأحكام المتعلقة بالأمهات فالتسمية يراعى فيها الاعتبار الذي وضعت لأجله ، ومن رضع من امرأة كان بعض بدنه جزءا منه ; لأنه تكون من لبنها فصارت في هذا كأمه التي ولدته ، وصار أولادها إخوة له ; لأن لتكوين أبدانهم أصلا واحدا هو ذلك اللبن ، وهذا المعنى لا يظهر في أولاد زوجها من امرأة أخرى إلا من بعد ، بأن يقال : إن هذا الرجل الذي كان بلقاحه سببا لتكون اللبن في المرأتين قد صار أصلا لأولادهما ، إذ في كل واحد منهما جزء من لقاحه تناوله مع اللبن فاشتركا في سبب اللبن ، أو في هذا الجزء من اللبن الذي تكون بعض بدنهما منه فكانا أخوين لا يحل أحدهما للآخر إذا كان أحدهما ذكرا ، والآخر أنثى ; ولهذا المعنى قلنا فيما سبق : إن حرمة الرضاعة تدل على حرمة بنت الزنا على والدها بالأولى .

وقد روي عن بعض الصحابة ، والتابعين عدم التحريم من جهة زوج المرضعة دونها . فقد صح عن أبي عبيدة بن عبد الله بن زمعة أن أمه زينب بنت أم سلمة أم المؤمنين أرضعتها أسماء بنت أبي بكر الصديق امرأة الزبير بن العوام . قالت زينب : وكان الزبير يدخل علي وأنا أمتشط فيأخذ بقرن من قرون رأسي ويقول : أقبلي علي فحدثيني ، أرى أنه أبي ، وما ولد منه فهم إخوتي ، إن عبد الله بن الزبير أرسل إلي يخطب أم كلثوم ابنتي على حمزة بن الزبير ، وكان حمزة للكلبية ، فقلت لرسوله : وهل تحل له ، وإنما هي ابنة أخته ؟ فقال عبد الله : إنما أردت بهذا المنع من قبلك ، أما ما ولدت أسماء فهم إخوتك ، وما كان من غيرها فليسوا لك بإخوة ، فأرسلي فاسألي عن هذا ، فأرسلت فسألت - وأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - متوافرون - فقالوا لها : إن الرضاعة من قبل الرجل لا تحرم شيئا . فأنكحتها إياه فلم تزل عنده حتى هلك عنها ، " قالوا : ولم ينكر ذلك الصحابة - رضي الله عنهم - . وروي القول بهذا - أي بأن الرضاعة من جهة المرأة لا من جهة الرجل - عن الزبير من الصحابة ، وعن بعض علماء التابعين منهم سعيد بن المسيب ، وأبو سلمة بن عبد الرحمن ، وسليمان بن يسار ، وعطاء بن يسار ، وأبو قلابة ، فالمسألة لم تكن إجماعية . وقد حمل الجمهور قول المخالفين في ذلك على عدم وصول السنة الصحيحة إليهم فيه ، أو على تأويل ما وصل إليهم لقيام ما يعارض حمله على ظاهره عندهم ، ويقال على الأول : إن من حفظ حجة على من لم يحفظ ، وعلى الثاني إنه اجتهاد منهم عارضته عندنا النصوص الظاهرة ، ومتى ثبتت السنة الصحيحة امتنع العدول عنها [ ص: 385 ] لاجتهاد المجتهدين . وهذا ما جرى عليه علماء الإسلام في هذه المسألة وغيرها ، فقد روي عن الأعمش أنه قال : كان عمارة ، وإبراهيم ، وأصحابنا لا يرون بلبن الفحل بأسا حتى أتاهم الحكم بن عتيبة بخبر أبي القعيس ، أي فأخذوا به ورجعوا عن رأيهم الأول .

فالذي جرى عليه العمل هو أن المرضعة أم لمن رضع منها ، وجميع أولادها إخوة له ، وإن تعددت آباؤهم ، وأصولها أصول له ، فتحرم عليه أمها كما تحرم بنتها وإخوتها خئولة له فتحرم عليه أخواتها . وأن زوج هذه المرضعة أب للرضيع أصوله أصول له ، وفروعه فروع له ، وإخوته عمومة له ، فيحرم عليه أن يتزوج أمه كما يحرم عليه أن يتزوج أية بنت من بناته سواء كن من مرضعته ، أو غيرها ، فإن أولاده من المرضعة إخوة أشقاء للرضيع ، ومن غيرها إخوة لأب كما أن أولادها هي من زوج آخر غير صاحب لقاح اللبن الذي رضع منه الرضيع إخوة لأم . ويحرم عليه أن يتزوج أحدا من بنات هؤلاء الإخوة ، أو الأخوات من الرضاعة ، وكذلك تحرم عليه عماته من الرضاعة ، وهن إخوة أبيه بالرضاعة ، فالسبع المحرمات بالنسب - وقد ذكرن بالتفصيل - محرمات بالرضاعة أيضا . وأما إخوة الرضيع ، وأخواته فلا يحرم عليهم أحد ممن حرم عليه ; لأنهم لم يرضعوا مثله فلم يدخل في تكوين بنيتهم شيء من المادة التي دخلت في بنيته فيباح للأخ أن يتزوج من أرضعت أخاه ، أو أمها ، أو بنتها ، ويباح للأخت أن تتزوج صاحب اللبن الذي رضع منه أخوها ، أو أختها ، أو أباه ، أو ابنه مثلا .

التالي السابق


الخدمات العلمية