صفحة جزء
[ ص: 10 ] فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ، الاستمتاع بالشيء هو التمتع أو طول التمتع به ، وهو من المتاع ، أي الشيء الذي ينتفع به ، ومنه قوله تعالى : فاستمتعتم بخلاقكم ( 9 : 69 ) ، أي نصيبكم إلى آخر الآية : قال بعضهم : إن السين والتاء في استمتعتم للتأكيد ولا يجوز أن تكون للطلب الذي هو الغالب في معناها ، والصواب أنه لا مانع يمنع من جعل الصيغة للطلب كما سأبينه ، والأجور : جمع أجر ، وهو في الأصل : الثواب والجزاء الذي يعطى في مقابلة شيء ما من عمل أو منفعة ، ثم خص بعد زمن التنزيل أو غلب فيما هو معلوم ، والفريضة : الحصة المفروضة أي المقدرة المحددة ، من فرض الخشبة إذا حزها ، وكانت العرب وغير العرب من الناس ولا يزالون يقدرون الأشياء من المقاييس والأعداد بفرض الخشب ، وأقرب شاهد عندي على هذا ما يفرض علي من ثمن اللبن كل صباح ، حيث أقيم الآن في القسطنطينية ، فبائع اللبن بلغاري وأصحاب البيت الذي أقيم فيه من الأرمن ، وهم الذين يشترون لي منه ، ويفرضون كل يوم فرضا في خشبة ، وفي كل طائفة من الزمن يحاسبونني ويحاسبونه بهذه الفروض .

ويطلق الفرض والفريضة على ما أوجبه الله من التكاليف إيجابا حتما ; لأن المفروض في الخشب يكون قطعيا لا محل للتردد فيه ، والمعنى ، فكل امرأة أو أية امرأة من أولئك النساء اللواتي أحل لكم أن تبتغوا تزوجهن بأموالكم استمتعتم بها ، أي : تزوجتموها فأعطوها الأجر والجزاء بعد أن تفرضوه لها في مقابلة ذلك الاستمتاع وهو المهر ، وقد تقدم في تفسير : وآتوا النساء صدقاتهن نحلة ( 4 : 4 ) ، أنه ينبغي للزوج أن يلاحظ في المهر غنى أعلى من معنى المكافأة والعوض ؛ فإن رابطة الزوجية أعلى من ذلك بأن يلاحظ فيه معنى تأكيد المحبة والمودة ، وأقول : إن تسمية المهر هنا أجرا ، أي ثوابا وجزاء لا ينافي ملاحظة ما في الزوجية من معنى سكون كل من الزوجين إلى الآخر وارتباطه معه برابطة المودة والرحمة ، كما بين الله تعالى ذلك في سورة الروم ، كما لا ينافي ما بينه في سورة البقرة من حقوق كل من الزوجين على الآخر بالمساواة ص 300 ج2 [ الهيئة العامة للكتاب ] ، ولكنه لما جعل للرجل على المرأة مع هذه المساواة في الحقوق درجة هي درجة القيامة ، ورياسة المنزل الذي يعمرانه ، والعشيرة التي يكونانها بالاشتراك ، وجعله بذلك هو فاعل الاستمتاع ، أي الانتفاع ، وهي القابلة له والمواتية فيه ، فرض لها سبحانه في مقابلة هذا الامتياز الذي جعله للرجل جزاء وأجرا تطيب به نفسها ، ويتم به العدل بينها وبين زوجها ، فالمهر ليس ثمنا للبضع ، ولا جزاء للزوجية نفسها ، وإنما سره وحكمته ما ذكرناه ، وهو واضح من معنى الآية مطابق للفظها جامع بينها وبين سائر الآيات ، وقد فتح الله علي به الآن ، ولم يكن خطر على بالي من قبل على وضوحه في نفسه .

وهل يعطى هذا الأجر المفروض والمهر المحدود قبل الدخول بالمرأة أو بعده ؟ إذا قلنا : [ ص: 11 ] إن السين والتاء في : استمتعتم للطلب يكون المعنى : فمن طلبتم أن تتمتعوا أو تنتفعوا بتزوجها فأعطوها المهر الذي تفرضونه لها عند العقد عطاء فريضة ، أو حال كونه فريضة تفرضونها على أنفسكم أو فرضها الله عليكم ، وإذا قلنا : إنها ليست للطلب ، يكون المعنى فمن تمتعتم بتزوجها منهن بأن دخلتم بها أو صرتم متمكنين من الدخول بها لعدم المانع بعد العقد فأعطوها مهرها عطاء فريضة ، أو افرضوه لها فريضة ، أو فرض الله عليكم ذلك فريضة لا هوادة فيها ، أو حال كون ذلك المهر فريضة منكم أو منه تعالى ، فالمهر يفرض ويعين في عقد النكاح ويسمى ذلك إيتاء وإعطاء حتى قبل القبض ، يقولون حتى الآن : عقد فلان على فلانة وأمهرها بألف أو أعطاها عشرة آلاف مثلا ، وكانوا يقولون أيضا : فرض لها كذا فريضة ; ولذلك اخترنا أن الذي فرض الفريضة هو الزوج بتقديمه في التقدير ويؤيده قوله تعالى : ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ( 2 : 236 ) ، وقوله : وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم ( 2 : 237 ) ، فالمهر يجب ويتعين بفرضه وتعيينه في العقد ويصير في حكم المعطى ، والعادة أن يعطى كله أو أكثره قبل الدخول ، ولا يجب كله إلا بالدخول ; لأن من طلق قبل الدخول وجب عليه نصف المهر لا كله ، ومن لم يعطه قبل الدخول يجب عليه إعطاؤه بعده ، ومن قال من الفقهاء : لا تسمع دعوى المرأة بمعجل المهر بعد الدخول لم يرد أنه لا يجب لها ، أو أنه يسقط بالدخول ، بل أراد أن هذه الدعوى على خلاف الظاهر المعهود فيغلب أن تكون باطلة .

ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة ، أي : لا حرج ولا تضييق عليكم منه تعالى إذا تراضيتم بعد الفريضة على الزيادة فيها أو النقص منها أو حطها كلها ، فإن الغرض من الزوجية أن تكونوا في عيشة راضية ومودة ورحمة تصلح بها شئونكم ، وترتقي بها أمتكم ، والشرع يضع لكم قواعد العدل ، ويهديكم مع ذلك إلى الإحسان والفضل : إن الله كان عليما حكيما فيضع لعباده من الشرائع بحكمته ما يعلم أن فيه صلاح حالهم ما تمسكوا به ، ومن ذلك أن أوجب على الرجل أن يفرض لمن يريد الاستمتاع بها أجرا يكافئها به على قبول قيامه ورياسته عليها ، ثم أذن له ولها في التراضي على ما يريان الخير فيه لهما والائتلاف والمودة بينهما .

هذا هو المتبادر من نظم الآية ; فإنها قد بينت ما يحل من نكاح النساء في مقابلة ما حرم فيما قبلها وفي صدرها ، وبينت كيفيته ، وهو أن يكون بمال يعطى للمرأة وبأن يكون الغرض المقصود منه الإحصان دون مجرد التمتع بسفح الماء ، وذهبت الشيعة إلى أن المراد بالآية " نكاح المتعة " : وهو نكاح المرأة إلى أجل معين كيوم أو أسبوع أو شهر مثلا ، واستدلوا على ذلك بقراءة شاذة رويت عن أبي ، وابن مسعود ، وابن عباس رضي الله عنهم وبالأخبار والآثار التي رويت [ ص: 12 ] في المتعة ، فأما القراءة فهي شاذة لم تثبت قرآنا ، وقد تقدم أن ما صحت فيه الرواية من مثل هذا آحادا ، فالزيادة فيه من قبيل التفسير ، وهو فهم لصاحبه ، وفهم الصحابي ليس حجة في الدين ، لا سيما إذا كان النظم والأسلوب يأباه كما هنا ، فإن المتمتع بالنكاح الموقت لا يقصد الإحصان دون المسافحة ، بل يكون قصده الأول المسافحة ، فإن كان هناك نوع ما من إحصان نفسه ومنعها من التنقل في دمن الزنا ; فإنه لا يكون فيه شيء ما من إحصان المرأة التي تؤجر نفسها كل طائفة من الزمن لرجل فتكون كما قيل :


كرة حذفت بصوالجة فتلقفها رجل رجل

ثم إنه ينافي ما تقرر في القرآن بمعنى هذا ، كقوله عز وجل في صفة المؤمنين : والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون ( 23 : 5 - 7 ) ، أي : المتجاوزون ما أحله الله لهم إلى ما حرمه عليهم ، وهذه الآيات لا تعارض الآية التي نفسرها بل هي بمعناها فلا نسخ ، والمرأة المتمتع بها ليست زوجة فيكون لها على الرجل مثل الذي له عليها بالمعروف كما قال الله تعالى ، وقد نقل عن الشيعة أنفسهم أنهم لا يعطونها أحكام الزوجة ولوازمها ، فلا يعدونها من الأربع اللواتي تحل للرجل أن يجمع بينها مع عدم الخوف من الجور ، بل يجوزون للرجل أن يتمتع بالكثير من النساء ، ولا يقولون برجم الزاني المتمتع إذ لا يعدونه محصنا ، وذلك قطع منهم بأنه لا يصدق عليه قوله تعالى في المستمتعين : محصنين غير مسافحين وهذا تناقض صريح منهم ، ونقل عنهم بعض المفسرين أن المرأة المتمتع بها ليس لها إرث ولا نفقة ولا طلاق ولا عدة ! والحاصل أن القرآن بعيد من هذا القول ، ولا دليل في هذه الآية ولا شبه دليل عليه ألبتة .

وأما الأحاديث والآثار المروية في ذلك فمجموعها يدل على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يرخص لأصحابه فيها في بعض الغزوات ، ثم نهاهم عنها ، ثم رخص فيها مرة أو مرتين ، ثم نهاهم عنها نهيا مؤبدا ، وأن الرخصة كانت للعلم بمشقة اجتناب الزنا مع البعد عن نسائهم فكانت من قبيل ارتكاب أخف الضررين ; فإن الرجل إذا عقد على امرأة خلية نكاحا مؤقتا وأقام معها ذلك الزمن الذي عينه ، فذلك أهون من تصديه للزنا بأية امرأة يمكنه أن يستميلها ، ويرى أهل السنة أن الرخصة في المتعة مرة أو مرتين يقرب من التدريج في منع الزنا منعا باتا كما وقع التدريج في تحريم الخمر ، وكلتا الفاحشتين كانت فاشية في الجاهلية ، ولكن فشو الزنا كان في الإماء دون الحرائر ، وروي عن بعض الصحابة أن الرخصة بالمتعة لم تنسخ ، أو أن النهي عنها إنما كان في حال الإقامة والاختيار ، لا في حال العنت والاضطرار الذي يكون غالبا في الأسفار ، وأشهر علماء الصحابة الذين كانوا يقولون بها عبد الله بن عباس [ ص: 13 ] رضي الله عنه ، وقد روي أنه لما رخص فيها قال له مولى له : إنما ذلك في الحال الشديد ، وفي النساء قلة أو نحوه ، قال ابن عباس : نعم ، وعن ابن جبير أنه قال : قلت لابن عباس : لقد سارت بفتياك الركبان ، وقال فيها الشعراء ، قال : وما قالوا ؟ قلت : قالوا :


قد قلت للشيخ لما طال مجلسه     يا صاح هل لك في فتوى ابن عباس
هل لك في رخصة الأطراف آنسة     تكون مثواك حتى مصدر الناس

فقال : سبحان الله ، ما بهذا أفتيت ! وما هي إلا كالميتة والدم ولحم الخنزير ، ولا تحل إلا للمضطر ، فعلى هذا لا يجيزها إلا لمن خشي العنت ، وعجز عن التزوج الذي مبنى عقده على الدوام ، ورأى أنه لا مفر له من الزنا إلا بهذا الزواج الموقت ، ورووا أن عليا كرم الله وجهه خطأ ابن عباس في رأيه هذا ، فرجع عنه ، ولكنه ثبت في صحيح مسلم أن ابن عباس كان يقول بذلك في خلافة عبد الله بن الزبير ، وروى عنه الترمذي والبيهقي والطبراني أنها كانت في أول الإسلام ، كان الرجل يقدم البلد ليس له بها معرفة فيتزوج المرأة بقدر ما يرى أنه مقيم فتحفظ له متاعه وتصلح له من شأنه حتى نزلت الآية : إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم ( 23 : 6 ) ، فكل فرج سواهما فهو حرام ، وهذه الرواية معارضة بالروايات الصحيحة عند مسلم وغيره في أن المتعة كانت في أواخر سني الهجرة ، وبأن الآية التي أشار إليها مكية ، وبما هو معلوم في التاريخ من أن المسلمين في أول الإسلام لم يكن الرجل منهم يسافر إلى البلد فيقيم فيه كما ذكر في الرواية ، فإنهم كانوا مضطهدين معرضين للقتل أينما ثقفوا ، نعم إن وقوع ذلك منهم ليس محالا ولكنه خلاف الظاهر ، ولم ترد به رواية معينة عن أحد ، مع أن ظاهر العبارة أنه كان شائعا ، فعبارة هذه الرواية تتم عليها وتشهد أنها لفقت في عهد حضارة المسلمين بعد الصحابة ، فالإنصاف أن مجموع الروايات تدل على إصرار ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ على فتواه بالمتعة لكن على سبيل الضرورة وهو اجتهاد منه معارض بالنصوص ، ويقابله اجتهاد السواد الأعظم من الصحابة والتابعين وسائر المسلمين .

والعمدة عند أهل السنة في تحريمها وجوه ، ( أولها ) : ما علمت من منافاتها لظاهر القرآن في أحكام النكاح ، والطلاق ، والعدة ، إن لم نقل لنصوصه ، ( وثانيها ) : الأحاديث المصرحة بتحريمها تحريما مؤبدا إلى يوم القيامة ، وقد جمع متونها وطرقها مسلم في صحيحه ، فمن أحب الاطلاع على ذلك فليرجع إليه وإلى شرح النووي له ، وكذا شرح الحافظ ابن حجر للبخاري ( وثالثها ) : نهي عمر عنها في خلافته وإشادته بتحريمها على المنبر وإقرار الصحابة على ذلك ، وقد علم أنهم ما كانوا يقرون على منكر ، وأنهم كانوا يرجعونه إذا أخطأ ، ومنه ما مر في تفسير قوله تعالى : وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا ( 4 : 20 ) ، [ راجع ص 375 [ ص: 14 ] وما بعدها جـ4 ط الهيئة المصرية العامة للكتاب ] ، فقد خطأته امرأة فرجع إلى قولها واعترف بخطئه على المنبر ، ومثل هذا ينقض قول من يقول من الشيعة : إنهم سكتوا تقية ، وقد تعلقوا بما ورد في بعض الروايات من قول عمر رضي الله عنه : " أنا محرمها " ، فقالوا : إنه حرمها من قبل نفسه ولا يعتد بتحريمه ، ولو بنى ذلك على نص لذكره ، وأجيب على ذلك بأنه أسند التحريم إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما في رواية ابن ماجه ، وابن المنذر ، والبيهقي ، فيظهر أن من روى عنه ذلك اللفظ رواه بالمعنى ، فإن صح أنه لفظه فمعناه : أنه مبين تحريمها أو منفذ له ، وقد شاع عند الفصحاء والعلماء إسناد التحريم والإيجاب والإباحة إلى مبين ذلك ، فإذا قالوا : حرم الشافعي النبيذ ، وأحله أو أباحه أبو حنيفة ، لم يعنوا أنهما شرعا ذلك من عند أنفسهما ، وإنما يعنون أنهم بينوه بما ظهر لهم من الدليل ، وقد كنا قلنا في " محاورات المصلح والمقلد " التي نشرت في المجلدين الثالث والرابع من المنار : إن عمر منع المتعة اجتهادا منه وافقه عليه الصحابة ، ثم تبين لنا أن ذلك خطأ فنستغفر الله منه ، وإنما ذكرنا ذلك على سبيل الشاهد والمثال ، لا التمحيص للمسألة عن طريق الاستقلال .

وتقول الشيعة : إن لديهم روايات عن آل البيت عليهم السلام قاطعة بإباحة المتعة ، ولم نطلع على هذه الروايات وأسانيدها لنحكم فيها فأين هي ؟ ولكن ثبت عندنا أن إمام أئمة آل البيت عليا كرم الله وجهه حرم المتعة مع المحرمين لها من الصحابة رضوان الله عليهم ، ويقول بعض الغلاة في التعصب منهم : إنا لا نقبل هذه الرواية عنه ؛ لأنها رواية الخصم ؛ ولأن شيعته أعلم بأقواله ، ويجيب أهل السنة عن مثل هذا الكلام بأنه تمويه ومغالطة ; فإن المسألة ليست من الأصول التي كانت الشيعة بها شيعة ، وأهل السنة هم أهل السنة ، وإنما هي من أحكام الفروع العملية التي يهم كل مسلم أن يحرر الرواية فيها عن علماء الصاحبة ، ولا يشك أحد من أهل السنة في كون علي في مقدمتهم ، ثم إن رواة الأحاديث المدونة في دواوين أهل السنة المشهورة قسمان : منهم الأولون الذين لم يكونوا يلتزمون مذهبا فيتهموا بتأييده بالروايات وإنما يتبعون ما صحت روايته عندهم ، فالرواية هي الأصل وإلا ما صح منها يذهبون ، ومنهم الذين كانوا متبعين للمذاهب بعد حدوثها ، وقد كان عدولهم يروون ما يوافقها وما يخالفها ؛ لأنهم يدينون الله بالصدق في الرواية ويكلون إلى فقهائهم بيان معناها وترجيح المتعارض منها ، بل لم يمتنعوا عن رواية بعض الأحاديث التي لا تخلو من طعن في بعض أصول الدين التي لا تختلف فيها المذاهب ، فعدالة الرواة هي العمدة فيرجع فيها إلى قواعد الجرح والتعديل وتراجم الرجال وتمحيص ما قيل في جرحهم وتعديلهم ، ولا يستطيع أحد أن ينكر أن المذاهب كانت سببا للوضع والكذب في الرواية ، وأن نقد الرواة المقلدين هو أهم مسائل هذا الفن ، ولكن مسألة المتعة لم تكن في عصر الرواية من هذا الباب ، وقد عدل المحدثون [ ص: 15 ] من أهل السنة كثيرا من الشيعة في الرواية ، ولا سعة في التفسير لهذه المباحث بل أخشى أن أكون قد خرجت بهذا البحث عن منهاجي فيه ، وهو الإعراض عن مسائل الخلاف التي لا علاقة لها بفهم القرآن والاهتداء به ، وعن الترجيح بين المذاهب الذي هو مثار تفرق المسلمين وتعاديهم ، على أنني أبرأ إلى الله من التعصب والتحيز إلى غير ما يظهر لي أنه الحق ، والله عليم بذات الصدور ، وقد بدأت بكتابة هذا البحث وأنا أنوي ألا أكتب فيه إلا بضعة أسطر ; لأنني لا أريد تحرير القول في الروايات هنا ، وليس عندي حيث أكتب شيء من كتب السنة فأراجعها فيه ، ولكن ما كتبته هو صفوتها وصفوة ما قالوه فيها ، فإن اطلعنا بعد ذلك على روايات أخرى للشيعة بأسانيدها ، فربما نكتب في ذلك مقالا نمحص فيه ما ورد من الطريقين ونحكم فيه بما نعتقد من قواعد التعرض والترجيح وننشر ذلك في المنار .

هذا ، وإن تشديد علماء السلف والخلف في منع المتعة يقتضي منع النكاح بنية الطلاق ، وإن كان الفقهاء يقولون : إن عقد النكاح يكون صحيحا إذا نوى الزوج التوقيت ولم يشترطه في صيغة العقد ، ولكن كتمانه إياه يعد خداعا وغشا ، وهو أجدر بالبطلان من العقد الذي يشترط فيه التوقيت ، ويكون بالتراضي بين الزوج والمرأة ووليها ، ولا يكون فيه من المفسدة إلا العبث بهذه الرابطة العظيمة التي هي أعظم الروابط البشرية ، وإيثار التنقل في مراتع الشهوات بين الذواقين والذواقات وما يترتب على ذلك من المنكرات ، وما لا يشترط فيه ذلك يكون على اشتماله على ذلك غشا وخداعا يترتب عليه مفاسد أخرى من العداوة والبغضاء وذهاب الثقة حتى بالصادقين الذين يريدون بالزواج حقيقته ، وهو إحصان كل من الزوجين للآخر وإخلاصه له وتعاونهما على تأسيس بيت صالح بين بيوت الأمة .

التالي السابق


الخدمات العلمية