ثم قال : 
فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ، أي : فإذا فعلن الفعلة الفاحشة وهي الزنا بعد إحصانهن بالزواج فعليهن من العقاب نصف ما على المحصنات الكاملات ، وهن الحرائر إذا زنين ، وهو ما بينه تعالى بقوله :   
[ ص: 21 ] الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة   ( 24 : 2 ) ، 
فالأمة المتزوجة تجلد إذا زنت خمسين جلدة ، وأما الحرة فتجلد مائة جلدة ، والحكمة في ذلك ما تقدم آنفا من كون الحرة أبعد عن دواعي الفاحشة ، والأمة عرضة لها وضعيفة عن مقاومتها ، فرحم الشارع ضعفها فخفف العقاب عنها ، وإذا كان العذاب في هذه الآية هو الحد الذي بينه في تلك ـ الآية ـ آية الجلد ـ كما قال المفسرون كافة وفاقا لقاعدة : " القرآن يفسر بعضه بعضا " ، فظاهرهما أن الأمة لا تحد إلا إذا كانت محصنة ، وأما الحرة فظاهر آية النور أنها تجلد مائة جلدة سواء أكانت محصنة أم أيما ، وسواء أكانت الأيم بكرا أم ثيبا ؛ لأن الآية مطلقة ، ولولا السنة لكان لذاهب أن يذهب إلى أن الآية التي نفسرها خصصت الزانية الحرة بالمحصنة للمقابلة فيها بين الإماء اللواتي أحصن وبين المحصنات من الحرائر ، وقد تقدم تفسيرهم لقوله تعالى : 
والمحصنات من النساء بالحرائر المتزوجات ، ولكنهم لأجل ما ورد في السنة فسروا المحصنات في هذه الآية بالحرائر غير المتزوجات ، ولكنهم لأجل ما ورد في السنة فسروا المحصنات في هذه الآية بالحرائر غير المتزوجات ، قالوا : بدليل مقابلته بالإماء وليس بسديد ، فإنه في مقابلة الإماء المحصنات لا مطلقا ، ثم قيدوا المحصنات هنا بقيد آخر ، وهو كونهن أبكارا ; لأنهم يعدون من تزوجت محصنة بالزواج وإن آمت بطلاق ، أو موت زوجها ، والوصف لا يفيد ذلك فإن المحصنة بالزواج هي التي لها زوج يحصنها ، فإذا فارقها لا تسمى محصنة بالزواج كما أنها لا تسمى متزوجة ، كذلك المسافر إذا عاد من سفره لا يسمى مسافرا ، والمريض إذا برئ لا يسمى مريضا ، وقد قال بعض الذين خصوا المحصنات هنا بالأبكار : إنهن قد أحصنتهن البكارة ، ولعمري إن البكارة حصن منيع لا تتصدى صاحبته لهدمه بغير حقه وهي على سلامة فطرتها وحيائها وعدم ممارستها للرجال ، وما حقه إلا أن يستبدل به حصن الزوجية ، ولكن ما بال الثيب التي فقدت كل واحد من الحصنين تعاقب أشد العقوبتين إذ حكموا عليها بالرجم ؟ هل يعدون الزواج السابق محصنا لها وما هو إلا إزالة لحصن البكارة وتعويد لممارسة الرجال ! فالمعقول الموافق لنظام الفطرة هو أن يكون عقاب الثيب التي تأتي الفاحشة دون عقاب المتزوجة ، وكذا دون عقاب البكر أو مثله في الأشد ، وقد بلغني أن بعض الأعراب في 
اليمن  يعاقبون بالقتل كلا من البكر والمتزوجة إذا زنتا ، ولا يعاقبون الثيب بالقتل ولا بالجلد ; لأنهم يعدونها معذورة طبعا ، وإن لم تكن معذورة شرعا . 
وأما السنة فقد ثبت في الصحيحين أنه صلى الله عليه وآله وسلم حكم برجم اليهودي واليهودية عندما تحاكم إليه 
اليهود  في أمرهما إذ أتيا الفاحشة ، والحديث صريح في أنه حكم في ذلك بنص التوراة ، قال العلماء : ويجب اتباعه فيما حكم به مهما كان سبب الحكم ; لأنه لا يحكم إلا بالحق ، واستدلوا بذلك ؛ لأن الإسلام ليس شرطا في الإحصان خلافا لمن اشترطه ، وروي   
[ ص: 22 ] عن 
 nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس  ـ رضي الله عنه ـ أنه قال : 
الرجم في كتاب الله لا يغوص عليه إلا غواص ، وهو قوله تعالى : 
يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب   ( 5 : 15 ) ، فهو يريد أن هذا مما بينه لهم وحكم به فصار مشروعا لنا ، وتتمة الآية 
ويعفو عن كثير ، أي : مما تخفون من الكتاب ، ثم ذكر الله تعالى بعد ذلك القرآن ، ووجوب اتباعه ، وروى عنه 
أبو داود  أنه قال : إن آية الرجم نزلت في سورة النور بعد آية الجلد ، ثم رفعت وبقي الحكم بها ، وفي الصحيحين وغيرهما عن 
عمر  ـ رضي الله عنه ـ أن الرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة ، أو كان حمل أو اعتراف   . 
وأمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ برجم 
ماعز الأسلمي  والغامدية  لاعترافهما بالزنا ، ولكنه أرجأ المرأة حتى وضعت ، وأرضعت ، وفطمت ولدها ، رواه 
مسلم  ، 
وأبو داود  من حديث 
بريدة  ، ورويا وكذا غيرهما من أصحاب السنن عن 
 nindex.php?page=showalam&ids=40عمران بن حصين  رجم امرأة من 
جهينة  ، وفي الموطأ والصحيحين والسنن من حديث 
 nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة    : جلد الغلام العسيف ( الأجير ) الذي زنى بامرأة مستأجرة ، ورجم المرأة ، وفي الصحيحين 
nindex.php?page=hadith&LINKID=919075عن  nindex.php?page=showalam&ids=11814أبي إسحاق الشيباني  قال : سألت  nindex.php?page=showalam&ids=51ابن أبي أوفى    : هل رجم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؟ قال : نعم ، قلت : قبل سورة النور أم بعدها ؟ قال : لا أدري ، وظاهر هذا السؤال والجواب أن السائل يريد أن يعلم هل كان الجلد ناسخا للرجم الذي ربما كان عملا بحكم التوراة ، أم كان الرجم مخصصا لعموم الجلد بجعله خاصا بغير المحصنين والمحصنات بالزواج ، وروى 
 nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري  عن 
 nindex.php?page=showalam&ids=14577الشعبي  أن 
عليا  ـ رضي الله عنه ـ حين رجم المرأة ضربها يوم الخميس ورجمها يوم الجمعة وقال : جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وهو يدل على أن 
عليا  لا يقول بأن الرجم نزل في كتاب الله ولا أنه يدل عليه ، ولا أذكر أنني رأيت حديثا صريحا في رجم الأيم الثيب ، وسأتتبع جميع الروايات عند تفسير آية النور وأحرر المسألة من كل وجه إن شاء الله تعالى في العمر ، وورد أن 
الأمة غير المحصنة تجلد إذا زنت لكن يجلدها سيدها ، قيل : حدا ، وقيل : تعزيرا مائة جلدة أو أقل ، أقوال ووجوه ، وأما العبيد فيعلم حكمهم من الآية بدلالة النص ، فعليهم ما على الإماء بشرطه ، وقيل : كالأحرار ، ثم قال : 
ذلك لمن خشي العنت منكم ، العنت : المشقة والجهد والفساد ، قيل : أصله انكسار العظم بعد الجبر ، أي : ذلك الذي أبيح لكم من 
نكاح الإماء عند العجز عن الحرائر جائز لمن خشي على نفسه الضرر ، والفساد من التزام العفة ومقاومة داعية الفطرة ، ذلك بأن مقاومة هذه الداعية التي هي أقوى وأرسخ شئون الحياة قد تفضي إلى أمراض عصبية وغير عصبية إذا طال العهد على مقاومتها ، وذهب الجمهور إلى أن المراد بالعنت لازمه وهو الإثم بارتكاب الزنا ، قال بعضهم : إن العنت يطلق على الإثم لغة ، ونقول : إن الإثم في أصل اللغة ليس بمعنى المعصية الشرعية ، بل هو الضرر فيقرب من معنى إلا أن العنت أشد ، ويدل على ذلك ما روي عن 
 nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس   [ ص: 23 ] رضي الله عنه أن 
نافع بن الأزرق  سأله عن العنت ، فقال : الإثم ، قال 
نافع    : وهل تعرف العرب ذلك ؟ قال : نعم ، أما سمعت قول الشاعر : 
رأيتك تبتغي عنتي وتسعى مع الساعي علي بغير ذحل 
وأن تصبروا وتتقوا خير لكم أي : وصبركم بحبس أنفسكم عن نكاح الإماء مع العفة خير لكم من نكاحهن ، وإن كان جائزا لكم ، لدفع الضرر عنكم ، لما فيه من العلل والمعايب كالذل والمهانة والابتذال ، وما يترتب على ذلك من مفاسد الأعمال ، وسريان ذلك منهن إلى أولادهن بالوراثة ، وكونهن عرضة للانتقال من مالك إلى مالك ، فقد يسهل على الرجل أن يكون زوجا لفتاة فلان الفاضل المهذب ، ولا يسهل عليه أن يكون زوجا لأمة فلان اللئيم أو الفاسق الزنيم ، ومن كانت للفاضل اليوم قد تكون للفاسق غدا ، وروي عن 
عمر  ـ رضي الله عنه ـ أنه قال : إذا نكح العبد الحرة فقد أعتق نصفه ، وإذا نكح الحر الأمة فقد أرق نصفه ، وهذه الحكمة مبنية على ما بيناه غير مرة من معنى الزوجية وهي أنها حقيقة واحدة مركبة من ذكر وأنثى كل منهما نصفها ; ولذلك يطلق على كل منهما لفظ " زوج " لاتحاده بالآخر وإن كان فردا في ذاته ، وروي عن 
 nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس  أنه قال : ما تزحف ناكح الأمة عن الزنا إلا قليلا ، وقال الشاعر : 
إذا لم تكن في منزل المرء حرة     تدبره ضاعت مصالح داره 
وقال الأستاذ الإمام : 
وأن تصبروا خير لكم لما فيه من تربية الإرادة وملكة العفة وتحكيم العقل بالهوى ، ومن عدم تعريض الولد للرق ، ولفساد الأخلاق بالإرث ، فإن الجارية بمنزلة المتاع والحيوان ، فهي تشعر دائما بالذل والهوان فيرث أولادها إحساسها ووجدانها الخسيسين ، وليس عندي عنه في هذه الآية غير هذا ، وما تقدم قريبا ، وإذا كان كل هذا يترتب على نكاح الأمة وكانت لم تحل إلا عند العجز عن نكاح الحرة ، فكيف تكون المتعة جائزة ؟ ! 
والله غفور رحيم يغفر لمن لم يصبر عن نكاح الأمة ، رحيم به ، كذا فسروه ، وقالوا : إنه نزله منزلة الذنب للتنفير عنه ، والأمر في مثل هذه الأسماء الإلهية التي تختم بها الآيات أوسع من أن تخص بما تتصل به ، ففي الآية ذكر أمور كثيرة يكون الإنسان فيها عرضة للهفوات واللمم كعدم الطول ، واحتقار الإماء المؤمنات والطعن فيهن عند الحديث في نكاحهن ، ثم عدم الصبر على معاشرتهن بالمعروف وسوء الظن بهن ، فلما كان الإنسان عرضة لأمثال هذه الأمور ، ومنها ما يشق اتقاؤه ، ذكرنا الله تعالى بمغفرته ورحمته بعد بيان أحكام شريعته ، ليذكرنا بأنه لا يؤاخذنا بما لا نستطيعه منها .