1. الرئيسية
  2. تفسير المنار
  3. سورة النساء
  4. تفسير قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون
صفحة جزء
المسألة العاشرة :

جرى جماهير العلماء على أن التيمم أمر تعبدي محض لا حكمة له إلا الإذعان والخضوع لأمر الله تعالى ; وذلك أن لأكثر العبادات منافع ظاهرية لفاعليها ، ومنها : الوضوء والغسل ، فإذا هي فعلت لأجل فائدتها البدنية أو النفسية ولم يقصد بها مع ذلك الإذعان وطاعة الشارع الحكيم لم تكن عبادة ; ولذلك كان التحقيق أن النية واجبة في العبادات كلها ولا سيما الطهارة ، ومعنى النية قصد الامتثال والإخلاص لله في العمل لا ما ذكره بعضهم من الفلسفة ، فالحكمة العليا للتيمم هي أن يأتي المكلف عند الصلاة بتمثيل بعض عمل الوضوء ليشير به إلى أنه إذا فاته ما في الوضوء أو الغسل من النظافة ، فإنه لا يفوته ما فيه من معنى الطاعة ، فالتيمم رمز لما في الطهارة المتروكة للضرورة من معنى الطاعة التي هي الأصل في طهارة النفس المقصودة من الدين أولا وبالذات ، والتي شرعت طهارة البدن ؛ لتكون عونا عليها ووسيلة لها ; فإن من يرضى لنفسه أن يعيش في الأوساخ والأقذار لا يكون عزيز النفس آبي الضيم كما يليق بالمؤمن ، وسيأتي شرح هذا المعنى عند قوله تعالى في آية الوضوء من سورة المائدة : ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون ( 5 : 6 ) .

ويلي هذه الحكمة حكمة أخرى عالية ، وهي ما في تمثيل عمل الطهارة بالإشارة من معنى الثبات والمواظبة والمحافظة ، فمن اعتاد ذلك يسهل عليه إتقان العمل وإتمامه ، ومن اعتاد ترك العمل المطلوب المؤقت في بعض أوقاته لعذر يوشك أن يتهاون به في بعض الأوقات لغير عذر ، بل لمحض الكسل ; فملكة المواظبة والمحافظة ركن من أركان التربية والنظام ، وترى مثل ذلك واضحا جليا في نظام الجندية الحديث ، فإن الجنود في مأمنهم داخل المعاقل والحصون يقيمون الخفراء عليهم آناء الليل والنهار في أوقات السلم والأمان ؛ لكيلا يقصروا في ذلك أيام الحرب ، ولهم مثل ذلك أعمال كثيرة هم لها عاملون ، كذلك نرى العمال في المعامل والبواخر يتعاهدون الآلات بالمسح والتنظيف في أوقات معينة ، كما يتعاهد الخدم في القصور والدور العامة والخاصة للأمراء والحكام وغيرهم من الذين يلتزمون النظام في معيشتهم الأماكن بالكنس والفرش والأثاث بالتنفيض والمسح في أوقات معينة ، وإن لم يكن هنالك وسخ ولا غبار ، وبذلك تكون هذه المعاهد كلها وما فيها نظيفا دائما ، وما من مكان تترك فيه هذه القاعدة العملية ، وتتبع قاعدة تنظيف الشيء عند طروء الوسخ أو الغبار عليه فقط ، إلا وترى الوسخ يلم به في أوقات كثيرة ، فإذا تأملت هذا ظهر لك أن إباحة القيام للصلاة عند فقد الماء مثلا بدون الإتيان بعمل يمثل طهارتها ، ويذكر بها تضعف ملكة المواظبة حتى يصير العود إليها عند وجود الماء مستثقلا ، وأن في التيمم تقوية لتلك الملكة وتذكيرا بما لا بد منه عند إمكانه بغير مشقة ، هذا ما ظهر لي ، ولم أسمعه قبل من أستاذ ولا رأيته في كتاب ، ولعلك [ ص: 108 ] تراه معقولا مقبولا لا تكلف فيه ، ثم إنني أنقل لك ما قاله العلماء في ذلك ، قال العلامة ابن قيم الجوزية في إعلام الموقعين :

( فصل ) : ومما يظن أنه على خلاف القياس باب التيمم ، قالوا : إنه على خلاف القياس من وجهين ، ( أحدهما ) : أن التراب ملوث لا يزيل درنا ولا وسخا ولا يطهر البدن ، كما لا يطهر الثوب ، والثاني أنه شرع في عضوين من أعضاء الوضوء دون بقيتها ، وهذا خروج عن القياس الصحيح ، ولعمر الله إنه خروج عن القياس الباطل المضاد للدين ، وهو على وفق القياس الصحيح ، فإن الله سبحانه وتعالى جعل من الماء كل شيء حي وخلقنا من التراب ، فلنا مادتان الماء والتراب ، فجعل منهما نشأتنا وأقواتنا وبهما تطهرنا وتعبدنا ، فالتراب أصل ما خلق منه الناس ، والماء حياة كل شيء ، وهما الأصل في الطبائع التي ركب عليها هذا العالم وجعل قوامه بهما ، وكان أصل ما يقع به تطهير الأشياء من الأدناس والأقذار هو الماء في الأمر المعتاد ، فلم يجز العدول عنه إلا في حال العدم أو العذر بمرض أو نحوه ، وكان النقل عنه إلى شقيقه وأخيه التراب أولى من غيره ، وإن لوث ظاهرا فإنه يطهر باطنا ، ثم يقوي طهارة الباطن فيزيل دنس الظاهر أو يخففه ، وهذا أمر يشهده من له بصر نافذ بحقائق الأعمال وارتباط الظاهر بالباطن وتأثر كل منهما بالآخر وانفعاله عنه .

فصل : وأما كونه في عضوين ففي غاية الموافقة للقياس والحكمة ، فإن وضع التراب على الرءوس مكروه في العادات ، وإنما يفعل عند المصائب والنوائب ، والرجلان محل ملابسة التراب في أغلب الأحوال ، وفي تتريب الوجه من الخضوع والتعظيم لله والذل له والانكسار ما هو أحب في العبادات إليه ، وأنفعها للعبد ; ولذلك يستحب للساجد أن يترب وجهه لله وألا يقصد وقاية وجهه من التراب ، كما قال بعض الصحابة لمن رآه قد سجد ، وجعل بينه وبين التراب وقاية ، فقال : ترب وجهك ، وهذا المعنى لا يوجد في تتريب الرجلين ، وأيضا فموافقة ذلك القياس من وجه آخر ، وهو أن التيمم جعل في العضوين المغسولين وسقط من العضوين الممسوحين ، فإن الرجلين تمسحان في الخف ، والرأس في العمامة ، فلما خفف عن المغسولين بالمسح خفف عن الممسوحين بالعفو ، إذ لو مسحا بالتراب لم يكن فيه تخفيف عنهما ، بل كان فيه انتقال من مسحهما بالماء إلى مسحهما بالتراب ، فظهر أن الذي جاءت به الشريعة هو أعدل الأمور وأكملها وهو الميزان الصحيح .

وأما كون تيمم الجنب كتيمم المحدث ، فلما سقط مسح الرأس والرجلين بالتراب عن المحدث سقط مسح البدن كله بالتراب عنه بطريق الأولى ، إذ في ذلك من المشقة ، والحرج والعسر ما يناقض رخصة التيمم ، ويدخل أكرم المخلوقات على الله في شبه البهائم إذا تمرغ في التراب ، فالذي جاءت به الشريعة لا مزيد في الحسن والحكمة والعدل عليه ، ولله الحمد ، اهـ .

[ ص: 109 ] وقال الشعراني في الميزان في وجه قول الشافعي وأحمد : لا يجوز التيمم إلا بالتراب ، أو برمل فيه غبار ، وقول أبي حنيفة ومالك بجوازه بالحجارة وجميع أجزاء الأرض حتى النبات عند مالك أقول : وكذا الثلج والجليد في رواية ما نصه : " ووجه الأول قرب التراب من الروحانية ؛ لأن التراب هو ما يحصل من عكارة الماء الذي جعل الله منه كل شيء حي فهو أقرب شيء إلى الماء ، بخلاف الحجر ، فإن أصله الزائد الصاعد على وجه الماء فلم يتخلص للمائية ولا للترابية ، فكان ضعيف الروحانية على كل حال بخلاف التراب ، وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول : إنما لم يقل الشافعي وغيره بصحة التيمم بالحجر مع وجود التراب لبعد الحجر عن طبع الماء وروحانيته فلا يكاد يحيي العضو الممسوح ، ولو سحق ، لا سيما أعضاء أمثالنا التي ماتت من كثرة المعاصي والغفلات وأكل الشهوات ، وسمعته مرة أخرى يقول : نعم ما فعل الشافعي من تخصيص التيمم بالتراب لما فيه من قوة الروحانية به بعد فقد الماء ، لا سيما أعضاء من كثر منه الوقوع في الخطايا من أمثالنا ، فعلم أن وجوب استعمال التراب خاص بالأصاغر ، ووجوب استعمال الحجر خاص بالأكابر الذين لا يعصون ربهم ، لكن إن تيمموا بالتراب زادوا روحانية وانتعاشا .

وسمعته مرة أخرى يقول : وجه من قال : يصح التيمم بالحجر مع وجود التراب كونه رأى أن أصل الحجر من الماء ، كما ورد في الصحيح أن رجلا قال : " يا رسول الله ، جئت أسألك عن كل شيء ، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : كل شيء خلق من الماء انتهى ، إلى أن قال الشعراني : لكن لا ينبغي للمتورع التيمم بالحجر إلا بعد فقد التراب ؛ لأنه مرتبة ضعيفة بالنظر للتراب ، ثم أورد آية التقوى بقدر الاستطاعة ، والحديث الذي بمعناها ، ثم قال : ونظير ما نحن فيه قول علمائنا في باب الحج : إن من لا شعر برأسه يستحب إمراره الموسى عليه تشبيها بالحالقين ، فكذلك الأمر هنا ، فمن فقد التراب المعهود ضرب على الحجر تشبيها بالضاربين بالتراب ، انتهى المراد منه .

وقال الشيخ أحمد المعروف بشاه ولي الله ، المحدث الدهلوي في كتابه ( حجة الله البالغة ) ما نصه : لما كان من سنة الله في شرائعه أن يسهل عليهم كل ما يستطيعونه ، وكان أحق أنواع التيسير أن يسقط ما فيه حرج إلى بدل ; لتطمئن نفوسهم ولا تختلف الخواطر عليهم بإهمال ما التزموه غاية الالتزام مرة واحدة ، ولا يألفوا ترك الطهارات ، أسقط الوضوء والغسل في المرض والسفر إلى التيمم ، ولما كان ذلك كذلك نزل القضاء من الملأ الأعلى بإقامة التيمم مقام الوضوء والغسل ، وحصل له وجود تشبيهي أنه طهارة من الطهارات ، وهذا القضاء أحد الأمور العظام التي تميزت بها الملة المصطفوية من سائر الملل ، وهو قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : جعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء أقول : إنما خص الأرض ؛ لأنها لا تكاد تفقد ، فهي أحق ما يرفع به الحرج ؛ ولأنها طهور في بعض الأشياء كالخف والسيف بدلا عن الغسل بالماء ، ولأن فيه تذللا بمنزلة تعفير الوجه في التراب ، وهو يناسب طلب العفو ، وإنما لم يفرق بين بدل الغسل والوضوء [ ص: 110 ] ولم يشرع التمرغ ؛ لأن من حق ما لا يعقل معناه بادي الرأي أن يجعل كالمؤثر بالخاصية دون المقدار ، فإنه هو الذي اطمأنت نفوسهم به في هذا الباب ؛ ولأن التمرغ فيه بعض الحرج فلا يصلح رافعا للحرج بالكلية ، وفي معنى المرض : البرد الضار لحديث عمرو بن العاص ، والسفر ليس بقيد إنما هو صورة لعدم وجدان الماء يتبادر إلى الذهن ، وإنما لم يؤمر بمسح الرجل بالتراب ؛ لأن الرجل محل الأوساخ ، وإنما يؤمر بما ليس حاصلا ليحصل به التنبه اهـ .

أقول : أحسن ما أورده الشعراني التنظير بمسألة إمرار الموسى على رأس من لا شعر له عند التحلل من الإحرام ، وأحسن ما قاله الدهلوي مسألة اطمئنان النفس بالبدل واتقاء أن يألفوا ترك الطهارة ، وهذا قريب من الوجه الثاني الذي أوردته أو شعبة منه ; على أنني ما رأيته إلا بعد أن قررت هذا المعنى مرارا وكتبته قبل الآن ، ولله الحمد أولا وآخرا وباطنا وظاهرا .

التالي السابق


الخدمات العلمية