1. الرئيسية
  2. تفسير المنار
  3. سورة النساء
  4. تفسير قوله تعالى إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل
صفحة جزء
المسألة التاسعة : في توسيد الأمر إلى غير أولي الأمر :

أخرج البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة المرفوع إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظروا الساعة وتقدم في تفسير الآية السابقة أن الأستاذ الإمام ، قال : إن المراد بالساعة في هذا الحديث ساعة الأمة التي تقوم فيها قيامتها أي : تدول دولتها على حد : من مات فقد قامت قيامته ، وفي " إحياء علوم الدين " : أن القيامة قيامتان القيامة الصغرى وهي قيامة أفراد الناس بالموت ، والقيامة الكبرى وهي قيامتهم كلهم بانتهاء هذا العالم والدخول في عالم الآخرة ، وقد يقال : إن قيامة الجماعات كقيامة الأفراد ، والتجوز بالساعة في هذا المقام أقرب إلى اللغة من التجوز بلفظ القيامة ; فإن القيامة من القيام ، وهي : يوم يقوم الناس لرب العالمين ( 83 : 6 ) ، وأما الساعة فهي الوقت المعين مطلقا ، ولا يزال الناطقون بالعربية يقولون : جاءت ساعة فلان ، أو جاء وقته ، والقرينة تعين المراد بذلك الوقت وتلك [ ص: 175 ] الساعة ، وإن خروج أمر الناس من يد أهله ـ القادرين على القيام به كما يجب ـ سبب لفساد أمرهم ومدن للساعة التي يهلكون فيها بالظلم ، أو بخرج الأمر من أيديهم ، ثم راجعت مفردات الراغب فرأيت له في تفسير الساعات تقسيما ثلاثيا : الساعة الكبرى بعث الناس للحساب ، والوسطى موت أهل القرن الواحد ، والصغرى موت الإنسان الواحد ، وحمل على الأخير بعض الآيات .

توسيد الأمة الإسلامية أمرها إلى غير أهله لا يمكن أن يكون باختيارها ، وهي عالمة بحقوقها قادرة على جعلها حيث جعلها كتاب الله تعالى ، وإنما يسلبها المتغلبون هذا الحق بجهلها وعصبيتهم التي يعلو نفوذها نفوذ أولي الأمر ، حتى لا يجرؤ أحد منهم على أمر ولا نهي ، أو يعرض نفسه للسجن أو النفي أو القتل .

هذا ما كان وهذا هو سبب سقوط تلك الممالك الواسعة ، وذهاب تلك الدول العظيمة ووقوع ما بقي في أيدي المسلمين تحت وصاية الدول العزيزة ، التي لم تعتز وتقو إلا بجعل أمرها بيد الأمة ، وتوسيد هذا الأمر إلى أهله ، وهو هو الذي تركه المسلمون من إرشاد دينهم ، وما تيسر لهم ترك أصول الشورى وتقديس الملوك والأمراء المستبدين إلا في الزمن الطويل بعد أن حجبوا الأمة عن كتاب ربها وسنة نبيها فجهلت حقوقها ، ثم أفسدوا عليها بعض أولي الأمر منها ، وأسقطوا قيمة الآخرين بضروب من المكايد الدينية والدنيوية .

نعم ، كان الجهل بالكتاب والسنة هو الذي مكن لأهل العصبية في بلاد المسلمين بالتدريج ، فكان أول ملك من ملوك العصبية قريبا من الخلفاء الراشدين في احترام أولي الأمر الذين تثق بهم الأمة لدينهم وعلمهم قبل أن تقوى العصبية عليهم ، واعتبر ذلك بأخبار معاوية ومن بعده ، دخل أبو مسلم الخولاني على معاوية ، فقال : السلام عليك أيها الأجير ، فقالوا : قل السلام عليك أيها الأمير ، فقال : السلام عليك أيها الأجير ، فأعادوا قولهم وأعاد قوله ، فقال معاوية : دعوا أبا مسلم فإنه أعلم بما يقول ، ونظم ذلك أبو العلاء المعري فقال :


مل المقام فكم أعاشر أمة أمرت بغير صلاحها أمراؤها     ظلموا الرعية واستجازوا كيدها
فعدوا مصالحها وهم أجراؤها

وقد عني الملوك المستبدون بعد ذلك بجذب العلماء إليهم بسلاسل الذهب والفضة والرتب والمناصب ، وكان غيرهم أشد انجذابا ، وقضى الله أمرا كان مفعولا .

وضع هؤلاء العلماء الرسميون قاعدة لأمرائهم ولأنفسهم هدموا بها القواعد التي قام بها أمر الدين والدنيا في الإسلام ، وهي أنه يجوز أن يكون أولياء الأمور كالأئمة والولاة والقضاة والمفتين فاقدين للشروط الشرعية التي دل على وجوبها واشتراطها الكتاب والسنة وإن صرح [ ص: 176 ] بها أئمة الأصول والفقه ، قالوا : يجوز إذا فقد الحائزون لتلك الشروط ، مثال ذلك أنه يشترط فيهم العلم الاستقلالي المعبر عنه بالاجتهاد ، وقد صرح هؤلاء بجواز تقليد الجاهل ـ أي : المقلد ـ وعدوه من الضرورة ، وأطلق الكثيرون هذا القول ، وجرى عليه العمل ، وذلك من توسيد الأمر إلى غير أهله الذي يقرب خطوات ساعة هلاك الأمة ، ومن علاماتها ذهاب الأمانة وظهور الخيانة ، ولا خيانة أشد من توسيد الأمر إلى الجاهلين ، روى مسلم ، وأبو داود من حديث ابن عباس : من استعمل عاملا من المسلمين ، وهو يعلم أن فيهم أولى بذلك منه ، وأعلم بكتاب الله وسنة نبيه ، فقد خان الله ورسوله وجميع المسلمين وإن لحديث البخاري الذي تقدم في توسيد الأمر إلى غير أهله مقدمة ، وذلك أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : إذا ضيعت الأمانة انتظر الساعة قيل : يا رسول الله ، وما إضاعتها ؟ فقال : " إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة " والأحاديث في هذا الباب كثيرة .

أطلق أعوان الملوك والأمراء القول بجواز تولية الجاهل ، وكذا فاقد غير العلم من شروط الولايات كالعدالة الشرعية ، ولم يصرح الكثيرون منهم بأن هذه ضرورة مؤقتة ، وأنه يجب على الأمة إذا فقد شرط من شروط إقامة أمر دينها أو دنياها أن تسعى في إقامته ، ومن صرح بذلك من أفراد المحققين ذهب قوله في الجمهور الجاهل عبثا ، والأمة كلها تكون آثمة إذا فقد أولو الأمر والأمراء والحكام ما يجب فيهم من العلم والتقوى ، ويجب عليها السعي والعمل لإيجاد الصالحين لذلك الذين يقيمون أمر الدين والدنيا ، وأن تكون هي التي تحكم بفقد تلك الشروط كلها ، أو بعضها وتقدره بقدره .

قال ابن تيمية في كتابه : السياسة الشرعية : الأئمة متفقون على أنه لا بد في المتولي من أن يكون عدلا أهلا للشهادة ، واختلفوا في اشتراط العلم هل يجب أن يكون مجتهدا ، أو يجوز أن يكون مقلدا ، أو الواجب تولية الأمثل فالأمثل كيفما تيسر على ثلاثة أقوال ، وبسط الكلام على ذلك في غير هذا الموضع ، ومع أنه يجوز تولية غير الأهل للضرورة ، إذا كان أصلح الموجود ، فيجب مع ذلك السعي في إصلاح الأحوال حتى يكمل في الناس ما لا بد لهم منه من أمور الولايات والإمارات ونحوها كما يجب على المعسر في وفاء دينه ، وإن كان في الحال لا يطلب منه إلا ما يقدر عليه ، وكما يجب الاستعداد للجهاد بإعداد القوة ورباط الخيل في وقت سقوطه للعجز ، فإن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، بخلاف الاستطاعة في الحج ونحوها فإنه لا يجب تحصيلها ; لأن الوجوب هناك لا يتم إلا بها اهـ .

وجملة القول : أنه ما وسد أمر الولايات العامة والخاصة إلى غير أهله إلا بجهل أولي الأمر وضعفهم ، ثم بإفساد الأمراء لهم ، والواجب على الأمة أن تعرف ما يشترط فيهم وتعيد إليهم حقهم ليعيدوا إليها حقها .

التالي السابق


الخدمات العلمية