صفحة جزء
[ ص: 242 ] وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا .

قيل : إن هذه الآية في المنافقين ، وهم الذين كانوا يذيعون بمسائل الأمن والخوف ونحوها مما ينبغي أن يترك لأهله ، وقيل : هم ضعفاء المؤمنين ، وهما قولان فيمن سبق الحديث عنهم في الآيات التي قبلها ، وصرح ابن جرير بأنها في الطائفة التي كانت تبيت غير ما يقول لها الرسول أو تقول له ، أقول : ويجوز أن يكون الكلام في جمهور المسلمين من غير تعيين لعموم العبرة ، ومن خبر أحوال الناس يعلم أن الإذاعة بمثل أحوال الأمن والخوف لا تكون من دأب المنافقين خاصة ، بل هي مما يلغط به أكثر الناس ، وإنما تختلف النيات ، فالمنافق قد يذيع ما يذيعه لأجل الضرر ، وضعيف الإيمان قد يذيع ما يرى فيه الشبهة ، استشفاء مما في صدره من الحكة ، وأما غيرهما من عامة الناس فكثيرا ما يولعون بهذه الأمور لمحض الرغبة في ابتلاء أخبارها ، وكشف أسرارها ، أو لما عساه ينالهم منها .

فخوض العامة في السياسة وأمور الحرب والسلم ، والأمن والخوف ، أمر معتاد وهو ضار جدا إذا شغلوا به عن عملهم ، ويكون ضرره أشد إذا وقفوا على أسرار ذلك وأذاعوا به ، وهم لا يستطيعون كتمان ما يعلمون ، ولا يعرفون كنه ضرر ما يقولون ، وأضره علم جواسيس العدو بأسرار أمتهم ، وما يكون وراء ذلك ، ومثل أمر الخوف والأمن وسائر الأمور السياسية والشئون العامة ، التي تختص بالخاصة دون العامة .

قال تعالى : وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ، أي : إذا بلغهم خبر من أخبار سرية غازية أمنت من الأعداء بالظفر والغلبة أو خيف عليها منهم بظهورهم عليها بالفعل أو بالقوة ، أو إذا جاءهم أمر من أمور الأمن والخوف مطلقا ، سواء كان من ناحية السرايا التي تخرج إلى الحرب أو من ناحية المركز العام للسلطة ، أذاعوا به أي بثوه في الناس وأشاعوه بينهم ، يقال : أذاع الشيء وأذاع به ، قال أبو الأسود :


أذاع به في الناس حتى كأنه بعلياء نار أوقدت بثقوب



أي : حتى صار مشهورا يعرفه كل أحد كالنار في المكان العالي ، أو كأنه نار في رأس علم ، والثقوب والثقاب العيدان التي تورى بها النار ، ويجوز أن يكون المعنى فعلوا به الإذاعة ، وهو أبلغ من أذاعوه كما قال الزمخشري .

وقال الأستاذ الإمام : أي أنهم من الطيش والخفة [ ص: 243 ] بحيث يستفزهم كل خبر عن العدو يصل إليهم فيطلق ألسنتهم بالكلام فيه وإذاعته بين الناس ، وما كان ينبغي أن تشيع في العامة أخبار الحرب وأسرارها ، ولا أن تخوض العامة في السياسة فإن ذلك يشغلها بما يضر ولا ينفع ، يضرهم أنفسهم بما يشغلهم عن شئونهم الخاصة ، ويضر الأمة والدولة بما يفسد عليها من أمر المصلحة العامة اهـ ، وهو مبني على رأيه في كون هذه الآيات في ضعفاء المسلمين .

التالي السابق


الخدمات العلمية