صفحة جزء
[ ص: 210 ] ( وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون )

( تمهيد للقصة ومذهب السلف والخلف في المتشابهات )

إن أمر الخلقة وكيفية التكوين من الشئون الإلهية التي يعز الوقوف عليها كما هي ، وقد قص الله علينا في هذه الآيات خبر النشأة الإنسانية على نحو ما يؤثر عن أهل الكتاب من قبلنا ، ومثل لنا المعاني في صور محسوسة ، وأبرز لنا الحكم والأسرار بأسلوب المناظرة والحوار كما هي سنته في مخاطبة الخلق وبيان الحق ، وقد ذهب الأستاذ إلى أن هذه الآيات من المتشابهات التي لا يمكن حملها على ظاهرها ؛ لأنها بحسب قانون التخاطب : إما استشارة وذلك محال على الله - تعالى ، وإما إخبار منه سبحانه للملائكة واعتراض منهم ومحاجة وجدال وذلك لا يليق بالله - تعالى - أيضا ولا بملائكته ، ولا يجامع ما جاء به الدين من وصف الملائكة ككونهم ( لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ) ( 66 : 6 ) وقد أورد الأستاذ مقدمة تمهيدية لفهم القصة فقال ما مثاله :

أجمعت الأمة الإسلامية على أن الله - تعالى - منزه عن مشابهة المخلوقات وقد قام البرهان العقلي والبرهان النقلي على هذه العقيدة ، فكانت هي الأصل المحكم في الاعتقاد الذي يجب أن يرد إليه غيره وهو التنزيه ، فإذا جاء في نصوص الكتاب أو السنة شيء ينافي ظاهره التنزيه فللمسلمين فيه طريقتان :

( إحداهما ) طريقة السلف وهي التنزيه الذي أيد العقل فيه النقل كقوله - تعالى - : ( ليس كمثله شيء ) ( 43 : 11 ) وقوله - عز وجل - : ( سبحان ربك رب العزة عما يصفون ) ( 37 : 180 ) وتفويض الأمر إلى الله - تعالى - في فهم حقيقة ذلك ، مع العلم بأن الله يعلمنا بمضمون كلامه ما نستفيد به في أخلاقنا وأعمالنا وأحوالنا ، ويأتينا في ذلك بما يقرب المعاني من عقولنا ويصورها لمخيلاتنا .

( والثانية ) طريقة الخلق وهي التأويل ، يقولون : إن قواعد الدين الإسلامي وضعت على أساس العقل ، فلا يخرج شيء منها عن المعقول ، فإذا جزم العقل بشيء وورد في النقل [ ص: 211 ] خلافه يكون الحكم العقلي القاطع قرينة على أن النقل لا يراد به ظاهره ولا بد له من معنى موافق يحمل عليه فينبغي طلبه بالتأويل . ( قال الأستاذ ) : وأنا على طريقة السلف في وجوب التسليم والتفويض فيما يتعلق بالله - تعالى - وصفاته وعالم الغيب ، وأننا نسير في فهم الآيات على كلا الطريقتين ؛ لأنه لا بد للكلام من فائدة يحمل عليها ؛ لأن الله - عز وجل - لم يخاطبنا بما لا نستفيد منه معنى .

( وأقول ) أنا مؤلف هذا التفسير : إنني ولله الحمد على طريقة السلف وهديهم .

عليها أحيا وعليها أموت إن شاء الله - تعالى ، وإنما أذكر من كلام شيخنا ، ومن كلام غيره ، ومن تلقاء نفسي بعض التأويلات لما ثبت عندي باختباري الناس أن ما انتشر في الأمة من نظريات الفلاسفة ومذاهب المبتدعة المتقدمين والمتأخرين ، جعل قبول مذهب السلف واعتقاده يتوقف في الغالب على تلقيه من الصغر بالبيان الصحيح وتخطئة ما يخالفه ، أو طول ممارسة الرد عليهم ، ولا نعرف في كتب علماء السنة أنفع في الجمع بين النقل والعقل من كتب شيخي الإسلام ابن تيمية وابن القيم - رحمهما الله - تعالى - ، وإنني أقول عن نفسي : إنني لم يطمئن قلبي بمذهب السلف تفصيلا إلا بممارسة هذه الكتب .

فنحن قد سمعنا بآذاننا شبهات على بعض الآيات والأحاديث لم يسهل علينا دفعها وإقناع أصحابها بصدق كلام الله وكلام رسوله إلا بضرب من التأويل ، وأمثال تقربها من عقولهم ومعلوماتهم أحسن التقريب ، وقد غلط كثير من علماء الكلام والمفسرين في بيان مذهب السلف وفي معاني التفويض والتأويل ، وتجد تفصيل ذلك لنا في أوائل تفسير سورة آل عمران ، كما أخطأ من قالوا : إن الدليل العقلي هو الأصل فيرد إليه الدليل السمعي ويجب تأويله لأجل موافقته مطلقا ، والحق كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية : إن كلا من الدليلين إما قطعي وإما غير قطعي ، فالقطعيان لا يمكن أن يتعارضا حتى نرجح أحدهما على الآخر ، وإذا تعارض ظني من كل منهما مع قطعي وجب ترجيح القطعي مطلقا ، وإذا تعارض ظني مع ظني من كل منها رجحنا المنقول على المعقول ؛ لأن ما ندركه بغلبة الظن من كلام الله ورسوله أولى بالاتباع مما ندركه بغلبة الظن من نظرياتنا العقلية التي يكثر فيها الخطأ جدا ؛ فظواهر الآيات في خلق آدم مثلا مقدم في الاعتقاد على النظريات المخالفة لها من أقوال الباحثين في أسرار الخلق وتعليل أطواره ونظامه ما دامت ظنية لم تبلغ درجة القطع .

وينبغي أن تعلم أيها القارئ المؤمن : أن من الخير لك أن تطمئن قلبا بمذهب السلف ولا تحفل بغيره ، فإن لم يطمئن قلبك إلا بتأويل يرضاه أسلوب اللغة العربية فلا حرج عليك ، فإن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها ، وأئمة علماء السلف قد تأولوا بعد الظواهر كما فعل الإمام أحمد وغيره في آيات المعية ، وآخرون في غيرها ، والذي عليك - قبل كل شيء - أن توقن [ ص: 212 ] بأن كلام الله كله حق ، وألا تؤول شيئا منه بسوء القصد ، وكذا ما صح عن رسوله - صلى الله عليه وسلم - من أمر الدين بغير شبهة . والتفسير الموافق للغة العرب لا يسمى تأويلا وإنما يجب معه تنزيه الخالق وعدم تشبيه عالم الغيب بعالم الشهادة من كل وجه .

إذا تقرر هذا فهاك تفسير هذا السياق بما قرره شيخنا في الأزهر قال ما مثاله :

أما الملائكة فيقول السلف فيهم : إنهم خلق أخبرنا الله - تعالى - بوجودهم وببعض عملهم فيجب علينا الإيمان بهم ، ولا يتوقف ذلك على معرفة حقيقتهم فنفوض علمها إلى الله - تعالى - ، فإذا ورد أن لهم أجنحة نؤمن بذلك ، ولكننا نقول : إنها ليست أجنحة من الريش ونحوه كأجنحة الطيور ؛ إذ لو كانت كذلك لرأيناها ، وإذا ورد أنهم موكلون بالعوالم الجسمانية كالنبات والبحار فإننا نستدل بذلك على أن في الكون عالما آخر ألطف من هذا العالم المحسوس ، وأن له علاقة بنظامه وأحكامه ، والعقل لا يحكم باستحالة هذا بل يحكم بإمكانه لذاته ، ويحكم بصدق الوحي الذي أخبر به .

( قال الأستاذ ) : وقد بحث أناس في جوهر الملائكة وحاولوا معرفتهم ولكن من وقفهم الله - تعالى - على هذا السر قليلون . والدين إنما شرع للناس كافة ، فكان الصواب الاكتفاء بالإيمان بعالم الغيب من غير بحث عن حقيقته ؛ لأن تكليف الناس هذا البحث أو العلم يكاد يكون من تكليف ما لا يطاق ، ومن خصه الله - تعالى - بزيادة في العلم فذلك يؤتيه من يشاء ، فقد ورد في الصحيح عن أمير المؤمنين علي - كرم الله وجهه - في هذا العلم اللدني الخاص وقد سئل : " هل خصكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشيء من العلم ؟ فقال : لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا أن يؤتي الله عبدا فهما في القرآن . . . إلخ . " وأما ذلك الحوار في الآيات فهو شأن من شئون الله - تعالى - مع ملائكته ، صوره لنا في هذه القصة بالقول والمراجعة والسؤال والجواب ، ونحن لا نعرف حقيقة ذلك القول ولكننا نعلم أنه ليس كما يكون منا ، وأن هناك معاني قصدت إفادتها بهذه العبارات ، وهي عبارة عن شأن من شئونه - تعالى - قبل خلق آدم وأنه كان يعد له الكون ، وشأن مع الملائكة يتعلق بخلق نوع الإنسان ، وشأن آخر في بيان كرامة هذا النوع وفضله .

وأما الفائدة فما وراء البحث في حقيقة الملائكة وكيفية الخطاب بينهم وبين الله - تعالى - فهي من وجوه :

( أحدها ) أن الله - تعالى - في عظمته وجلاله يرضى لعبيده أن يسألوه عن حكمته في صنعه ، وما يخفى عليهم من أسرار في خلقه ولا سيما عند الحيرة ، والسؤال يكون بالمقال ويكون بالحال والتوجه إلى الله - تعالى - في استفاضة العلم بالمطلوب من ينابيعه التي جرت سننه - تعالى - بأن [ ص: 213 ] يفيض منها ( كالبحث العملي والاستدلال العقلي والإلهام الإلهي ) وربما كان للملائكة طريق آخر لاستفاضة العلم غير معروفة لأحد من البشر فيمكننا أن نحمل سؤال الملائكة على ذلك .

( ثانيهما ) إذا كان من أسرار الله - تعالى - وحكمه ما يخفى على الملائكة فنحن أولى بأن يخفى علينا ، فلا مطمع للإنسان في معرفة جميع أسرار الخليقة وحكمها ؛ لأنه لم يؤت من العلم إلا قليلا .

( ثالثها ) أن الله - تعالى - هدى الملائكة في حيرتهم ، وأجابهم عن سؤالهم لإقامة الدليل بعد الإرشاد إلى الخضوع والتسليم ، وذلك أنه بعد أن أخبرهم بأنه يعلم ما لا يعلمون علم آدم الأسماء ثم عرضهم على الملائكة كما سيأتي بيانه .

( رابعها ) تسلية النبي - صلى الله عليه وسلم - عن تكذيب الناس ، ومحاجتهم في النبوة بغير برهان على إنكار ما أنكروا وبطلان ما جحدوا ، فإذا كان الملأ الأعلى قد مثلوا على أنهم يختصمون ويطلبون البيان والبرهان فيما لا يعلمون ، فأجدر بالناس أن يكونوا معذورين ، وبالأنبياء أن يعاملوهم كما عامل الله الملائكة المقربين ؛ أي فعليك أيها الرسول أن تصبر على هؤلاء المكذبين وترشد المسترشدين ، وتأتي أهل الدعوة بسلطان مبين . وهذا الوجه هو الذي يبين اتصال هذه الآيات بما قبلها ، وكون الكلام لا يزال في موضوع الكتاب وكونه لا ريب فيه ، وفي الرسول وكونه يبلغ وحي الله - تعالى - ويهدي به عباده ، وفي اختلاف الناس فيهما . ومن خواص القرآن الحكيم الانتقال من مسألة إلى أخرى مباينة لها أو قريبة منها مع كون الجميع في سياق موضوع واحد .

وأما الخلف : فمنهم من تكلم في حقيقة الملائكة ووضع لهم تعريفا ، ومنهم من أمسك عن ذلك ، وقد اتفقوا على أنهم يدركون ويعلمون ، والقصة على مذهبهم وردت مورد التمثيل لتقرب من أفهام الخلق ما تفيدهم معرفته من حال النشأة الآدمية ، ومالها من المكانة والخصوصية ، أخبر الله الملائكة بأنه جاعل في الأرض خليفة ، ففهموا من ذلك أن الله يودع في فطرة هذا النوع الذي يجعله خليفة أن يكون ذا إرادة مطلقة واختيار في عمله غير محدود ، وأن الترجيح بين ما يتعارض من الأعمال التي تعن له تكون بحسب علمه ، وأن العلم إذا لم يكن محيطا بوجوه المصالح والمنافع فقد يوجه الإرادة إلى خلاف المصلحة والحكمة وذلك هو الفساد ، وهو متعين لازم الوقوع ؛ لأن العلم المحيط لا يكون إلا لله - تعالى - ، فعجبوا كيف يخلق الله هذا النوع من الخلق وسألوا الله - تعالى - بلسان المقال إن كانوا ينطقون ، أو بلسان الحال والتوجيه إليه لاستفاضة المعرفة بذلك وطلب البيان والحكمة ، وعبر الله عن ذلك بالقول ؛ لأنه هو المعهود بالاستعلام والاستفهام عند البشر الذين أنزل القرآن لهدايتهم ، كما نسب القول إلى السماوات والأرض في قوله : ( قالتا أتينا طائعين ) ( 41 : 11 ) .

[ ص: 214 ] فأول ما ألقي إليهم من الإلهام أو غيره من طرق الإعلام هو وجوب الخضوع والتسليم لمن هو بكل شيء عليم ؛ لأن ما يضيق عنه علم أحد ويحار في كيفيته يتسع له علم من هو أعلم منه ، ومن شأن الإنسان أن يسلم لمن يعتقد أنه فوقه في العلم ما يتصدى له مهما يكن بعيد الوقوع في اعتقاده ، ومثل الأستاذ لذلك بمشايخ الصوفية مع مريديهم .

ومن ذلك اعتقاد جماهير الناس في بلاد الحضارة والصناعات في هذا العصر إمكان أمور وأعمال لم يكن أحد يتصور إمكانها من قبل إلا بعض كبار علماء النظر ، فإذا قيل : إنهم يحاولون عمل كذا فإنهم يصدقونهم وإن لم يعقلوا كيف يعملونه .

فإن الذين يصنعون سلكا لنقل الأخبار بالكهرباء إلى الأماكن البعيدة في دقيقة أو دقائق قليلة يصدقون بأنهم يوصلون تلك الأخبار من غير سلك - وقد كان - ويصدقون بإمكان إيجاد آلة تجمع نقل الصوت ورؤية المتكلم وهو ما يحاولون الآن ، وإذا قال لنا أهل هذه الصناعة : إن ذلك ممكن الحصول صدقناهم فيما يقولون من غير تردد ، وليس تصديقنا تقليدا ولا تسليما أعمى كما يقال ، بل هو تصديق عن دليل ، ركنه قياس ما يكون على ما قد كان بعد العلم بوحدة الوسائل . والملائكة أعلم منا بشأن الله في أفعاله وأنه العليم الحكيم ، فهم وإن فاجأهم العجب من خلق الخليقة ، يردهم إلى اليقين أدنى التنبيه ؛ ولذلك كان قوله - تعالى - : ( إني أعلم ما لا تعلمون ) جوابا مقنعا أي إقناع .

على أن هذا النوع من التسليم للعالم القادر ربما لا يذهب بالحيرة ولا يزيل الاضطراب من نفس المتعجب ، وإنما تسكن النفس ببروز ذلك الأمر الذي كانت تعجب من بروزه إلى عالم الوجود ووقوفها على أسراره وحكمه بالفعل ، ولذلك تفضل الله - تعالى - على الملائكة بإكمال علمهم بحكمته في خلق هذا الخليفة الإنساني وسره عند طلوع فجره . فعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة - كما سيأتي - فعلموا أن في فطرة هذا الخليفة واستعداده علم ما لم يعلموا ، وتبين لهم وجه استحقاقه لمقام الخلافة في الأرض ، وأن كل ما يتوقع من الفساد وسفك الدماء لا يذهب بحكمة الاستخلاف وفائدته ومقامه ، وناهيك بمقام العلم وفائدته وسر العالم وحكمته .

فعلمنا أن السلف والخلف متفقون على تنزيه الله - تعالى - عما لا يليق به من شئون المخلوقين ، وعصمة ملائكته عما لا يليق بهم من الاعتراض أو الإنكار . فلا فرق في هذه النتيجة بين تفويض وتسليم ، وتأويل وتفهيم ، والله بكل شيء عليم . وهاك تفسير الآيات بالتفصيل : قد علمت مما تقدم أن الآيات متصلة بما قبلها من الكلام في الكتاب ومن جاء به ومن دعى إليه ، فهي تجلي حجة الرسول ودعوته من حيث إن الملائكة إذا كانوا محتاجين إلى العلم ويستفيدونه بالتعلم من الله - تعالى - بالطريقة التي تناسب حالهم فالبشر أولى بالحاجة إلى ذلك منهم ؛ [ ص: 215 ] لأن طبيعة البشر جبلت على أن يكتسبوا كل شيء اكتسابا ، وهي من جهة أخرى تسلية له - صلى الله عليه وسلم - ببيان أن البشر أولى من الملائكة بإنكار ما لم يحيطوا بعلمه حتى يعلموا ، وأنهم جبلوا على أن يتوبوا ويرجعوا بعد أن يخطئوا ويذنبوا ، وأن الإفساد في الأرض وجحود الحق ومناصبة الداعي إليه ليس بدعا من قومه ، وإنما هو جبلة أهل الفكر وطبيعة البشر .

ثم إن للمفسرين في ( الخليفة ) مذهبين : ذهب بعضهم إلى أن هذا اللفظ يشعر بأنه كان في الأرض صنف أو أكثر من نوع الحيوان الناطق وأنه انقرض ، وأن هذا الصنف الذي أخبر الله الملائكة بأن سيجعله خليفة في الأرض سيحل محله ويخلفه ، كما قال - تعالى - بعد ذكر إهلاك القرون : ( ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم ) ( 10 : 14 ) وقالوا : إن ذلك الصنف البائد قد أفسد في الأرض وسفك الدماء ، وأن الملائكة استنبطوا سؤالهم بالقياس عليه ؛ لأن الخليفة لا بد أن يناسب من يخلفه ويكون من قبيله كما يتبادر إلى الفهم ، ولكن لما لم يكن دليل على أنه يكون مثله من كل وجه وليس ذلك من مقتضى الخلافة ، أجاب الله الملائكة بأنه يعلم ما لا يعلمون مما يمتاز به هذا الخليفة على من قبله ، وماله سبحانه في ذلك من الحكمة البالغة .

( قال الأستاذ ) : وإذا صح هذا القول فليس آدم أول الصنف العاقل من الحيوان على هذه الأرض ، وإنما كان أول طائفة جديدة من الحيوان الناطق تماثل الطائفة أو الطوائف البائدة منه في الذات والمادة ، وتخالفها في بعض الأخلاق والسجايا .

هذا أحسن ما يجلى فيه هذا المذهب ، وأكثر ما قالوه فيه قد سرى إلى المسلمين من أساطير الفرس وخرافاتهم ، ومنه أنه كان في الأرض قبل آدم خلق يسمون بالحن والبن ، أو الطم والرم ، والأكثرون على أن الخلق الذين كانوا في الأرض قبل آدم مباشرة كانوا يسمون الجن ، والقائلون منهم بالحن ( بالمهملة ) والبن قالوا : إنهم كانوا قبل الجن ، وقالوا : إن هؤلاء عاثوا في الأرض فسادا ، فأبادهم الله ( كما تقدم آنفا ) وقالوا : إن الله - تعالى - أرسل إليهم إبليس في جند من الملائكة فحارب الجن فدحرهم وفرقهم في الجزائر والبحار . وليس لهم في الإسلام سند يحتج به على هذه القصص ، ولكن تقاليد الأمم الموروثة في هذه المسألة تنبئ بأمر ذي بال ، وهي متفقة فيه بالإجمال ، ألا وهو ما قلناه من أن آدم ليس أول الأحياء العاقلة التي سكنت الأرض .

هذا هو المذهب الأول في تفسير الخليفة ، وذهب الآخرون إلى أن المراد : إني جاعل في الأرض خليفة عني ؛ ولهذا شاع أن الإنسان خليفة الله في أرضه . وقال - تعالى - : ( يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض ) ( 38 : 26 ) والظاهر - والله أعلم - أن المراد بالخليفة آدم ومجموع ذريته ، ولكن ما معنى هذه الخلافة ، وما المراد من هذا الاستخلاف ، هل هو استخلاف بعض الإنسان على بعض ، أم استخلاف البعض على غيره ؟ .

[ ص: 216 ] جرت سنة الله في خلقه بأن تعلم أحكامه للناس وتنفذ فيهم على ألسنة أناس منهم يصطفيهم ليكونوا خلفاء عنه في ذلك ، وكما أن الإنسان أظهر أحكام الله وسننه الوضعية ( أي الشرعية ؛ لأن الشرع وضع إلهي ) كذلك أظهر حكمه وسننه الخلقية الطبيعية ، فيصح أن يكون معنى الخلافة عاما في كل ما ميز الله به الإنسان على سائر المخلوقات ، نطق الوحي ودل العيان والاختيار على أن الله - تعالى - خلق العالم أنواعا مختلفة ، وخص كل نوع غير نوع الإنسان بشيء محدود معين لا يتعداه . فأما ما لا نعرفه إلا من طريق الوحي كالملائكة فقد ورد فيها من الآيات والأحاديث ما يدل على أن وظائفه محدودة . قال - تعالى - : ( يسبحون الليل والنهار لا يفترون ) ( 21 : 20 ) ( وإنا لنحن الصافون وإنا لنحن المسبحون ) ( 37 : 165 ، 166 ) ( والصافات صفا فالزاجرات زجرا ) ( 37 : 1 ، 2 ) ( والنازعات غرقا والناشطات نشطا والسابحات سبحا فالسابقات سبقا فالمدبرات أمرا ) ( 79 : 1 - 5 ) على قول من قال : إن المراد بها الملائكة ، إلى غير ذلك مما يدل على أنهم طوائف لكل طائفة وظيفة محدودة ، وورد في الأحاديث : أن منهم الساجد دائما ، والراكع دائما إلى يوم القيامة .

وأما ما نعرفه بالنظر والاختبار فهو حال المعدن والجماد ولا علم له ولا عمل . وحال النبات وإنما تأثير حياته في نفسه ، فلو فرض أن له علما وإرادة فهما لا أثر لهما في جعل عمل النبات مبينا لحكم الله وسننه في الخلق ، ولا وسيلة لبيان أحكامه وتنفيذها ، فكل حي من الأحياء المحسوسة والغيبية فإن له استعدادا محدودا ، وعلما إلهاميا محدودا ، وعملا محدودا ، وما كان كذلك لا يصلح أن يكون خليفة عن الذي لا حد لعلمه وإرادته ، ولا حصر لأحكامه وسننه ، ولا نهاية لأعماله وتصرفه .

وأما الإنسان فقد خلقه الله ضعيفا . كما قال في كتابه : ( وخلق الإنسان ضعيفا ) ( 4 : 28 ) وخلقه جاهلا كما قال - تعالى - : ( والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا ) ( 16 : 78 ) ولكنه على ضعفه وجهله عبرة لمن يعتبر ، وموضع لعجب المتعجب ؛ لأنه مع ضعفه يتصرف في الأقوياء ، ومع جهله في نشأته يعلم جميع الأسماء ، يولد الحيوان عالما بالإلهام ما ينفعه وما يضره ، وتكمل له قواه في زمن قليل ، ويولد الإنسان وليس له من الإلهام إلا الصراخ بالبكاء ، ثم يحس ويشعر بالتدريج البطيء بالنسبة إلى غيره من الحيوان ، ويعطى قوة أخرى تتصرف بشعوره وإحساسه تصرفا يكون له به السلطان على هذه الكائنات ، فيسخرها ويذللها بعد ذلك كما تشاء تلك القوة الغريبة وهي التي يسمونها العقل ، ولا يعقلون سرها ، ولا يدركون حقيقتها وكنهها ، فهي التي تغني الإنسان عن كل ما وهب للحيوان في أصل الفطرة من الكساء الذي يقيه البرد والحر ، والأعضاء التي يتناول بها غذاءه والتي يدافع بها عن نفسه ويسطو على عدوه ، وغير ذلك من المواهب التي يعطاها الحيوان بلا كسب ، حتى [ ص: 217 ] كان له بها من الاختراعات العجيبة ما كان ، وسيكون له من ذلك ما لا يصل إليه التقدير والحسبان .

فالإنسان بهذه القوة غير محدود الاستعداد ولا محدود الرغائب ولا محدود العلم ولا محدود العمل ، فهو على ضعف أفراده يتصرف بمجموعه في الكون تصرفا لا حد له بإذن الله وتصريفه ، وكما أعطاه الله - تعالى - هذه المواهب والأحكام الطبيعية ليظهر بها أسرار خليقته ، وملكه الأرض وسخر له عوالمها ، أعطاه أحكاما وشرائع ، حد فيها لأعماله وأخلاقه حدا يحول دون بغي أفراده وطوائفه بعضهم على بعض ، فهي تساعده على بلوغ كماله ؛ لأنها مرشد ومرب للعقل الذي كان له تلك المزايا ؛ فلهذا كله جعله خليفته في الأرض وهو أخلق المخلوقات بهذه الخلافة .

ظهرت آثار الإنسان في هذه الخلافة على الأرض ، ونحن نشاهد عجائب صنعه في المعدن والنبات ، وفي البر والبحر والهواء ، فهو يتفنن ويبتدع ويكتشف ويخترع ويجد ويعمل ، حتى غير شكل الأرض فجعل الحزن سهلا ، والماحل خصبا ، والخراب عمرانا ، والبراري بحارا أو خلجانا ، وولد بالتلقيح أزواجا من النبات لم تكن كالليمون المسمى " يوسف أفندي " فإن الله - تعالى - خلقه بيد الإنسان وأنشأه بكسبه ، وقد تصرف في أبناء جنسه من أنواع الحيوان كما يشاء بضروب التربية والتغذية والتوليد ، حتى ظهر التغير في خلقتها وخلائقها وأصنافها فصار منها الكبير والصغير ، ومنها الأهلي والوحشي ، وهو ينتفع بكل نوع منها ويسخره لخدمته كما سخر القوى الطبيعية وسائر المخلوقات ، أليس من حكمة الله الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ، أن جعل الإنسان بهذه المواهب خليفته في الأرض ، يقيم سننه ، ويظهر عجائب صنعه ، وأسرار خليقته ، وبدائع حكمه ، ومنافع أحكامه ، وهل وجدت آية على كمال الله - تعالى - وسعة علمه أظهر من هذا الإنسان الذي خلقه الله في أحسن تقويم ؟ وإذا كان الإنسان خليفة بهذا المعنى فكيف تعجب الملائكة منه ؟

( وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة ) بادروا إلى السؤال واستفهام الاستغراب و ( قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ) فيغفل بذلك عن تسبيحك وتقديسك ( ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ) بلا غفلة ولا فتور ؟ لا شك أن هذا السؤال نشأ من فهم المعنى المراد من الخليفة وما يقتضيه من العلم غير المحدود والإرادة المطلقة ، وكون هذا العلم المصرف للإرادة لا يحصل إلا بالتدريج ، وكون عدم الإحاطة مدعاة للفساد والتنازع المفضي إلى سفك الدماء كما تقدم .

نعم إن هذا العلم الواسع لا يعطاه فرد من أفراد الإنسان ولا مجموع النوع دفعة واحدة [ ص: 218 ] فيشابه علمه علم الله - تعالى - ، وكلما أوتي نصيبا منه ظهر له من جهله ما لم يكن يعلم ، وكلما أعطي حظا من الأدب والعقل ظهر له ضعف عقله ، ولله در الشافعي حيث قال :

كلما أدبني الدهـــ ـر أراني نقص عقلي

    وإذا ما ازددت علما
زادني علما بجهلي



فهو على سعة علمه لم يؤت من العلم الإلهي إلا قليلا ، وهو مع ذلك أوسع مظاهر العلم الإلهي ، ولذلك أجاب الله الملائكة بالعلم ( قال إني أعلم ما لا تعلمون ) فأثبت لذاته العلم بحكمة هذه الخلافة ونفاه عنهم ، ثم أظهر لهم أن الإنسان يكون خليفة بالعلم وما يتبعه فقال :

التالي السابق


الخدمات العلمية