1. الرئيسية
  2. تفسير المنار
  3. سورة البقرة
  4. تفسير قوله تعالى ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين
صفحة جزء
( ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين )

أباح الله - تعالى - لبني إسرائيل العمل في ستة أيام من الأسبوع ، وحظر عليهم العمل في يوم واحد وهو يوم السبت ، وفرض عليهم في هذا اليوم الاجتهاد في الأعمال الدينية إحياء للشعور الديني في قلوبهم ، وإضعافا لشرههم في جمع الحطام وحبهم للدنيا ، فتجاوز طائفة منهم حدود الله في السبت واعتدوها ، فكان جزاؤهم على ذلك جزاء من لم يرض نفسه بآداب الدين ، وجزاء مثله هو الخروج من محيط الكمال الإنساني ، والرتوع في مراتع البهيمية ، كالقرد في نزواته ، والخنزير في شهواته ، وقد سجل الله - تعالى - عليهم ذلك بحكم سنة الفطرة ، والنواميس التي أقام بها نظام الخليقة ، وذلك قوله - عز وجل - : ( ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت ) أي وأقسم أنكم لقد علمتم نبأ الذين تجاوزوا حدود حكم الكتاب في ترك العمل الدنيوي يوم السبت - وسيأتي نبؤهم مفصلا في سورة الأعراف - ( فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين ) روى ابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد أنه قال : ما مسخت صورهم ولكن مسخت قلوبهم ، فمثلوا بالقردة [ ص: 285 ] كما مثلوا بالحمار في قوله - تعالى - : ( مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا ) ( 62 : 5 ) ومثل هذا قوله - تعالى - : ( وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت ) ( 5 : 60 ) والخسوء : هو الطرد والصغار . والأمر للتكوين ، أي فكانوا بحسب سنة الله في طبع الإنسان وأخلاقه كالقردة المستذلة المطرودة من حضرة الناس ، والمعنى : أن هذا الاعتداء الصريح لحدود هذه الفريضة قد جرأهم على المعاصي والمنكرات بلا خجل ولا حياء حتى صار كرام الناس يحتقرونهم ولا يرونهم أهلا لمجالستهم ومعاملتهم .

وذهب جمهور المفسرين إلى أن تلك القرية ( أيلة ) وقيل : ( طبرية ) أو ( مدين ) وقالوا : إن ذلك كان في زمن داود - عليه السلام - ، والقرآن لم يعين المكان ولا الزمان ، والعبرة المقصودة لا تتوقف على تعيين هذه الجزئيات ، فالحجة فيما ذكر قائمة على بني إسرائيل ومبينة أن مجاحدتهم ومعاندتهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - ليست بدعا من أمرهم ، ثم إنها عبرة بينة لكل من يفسق عن أمر ربه فيتخذ إلهه هواه ويعيش عيشة بهيمية . وذهب الجمهور أيضا إلى أن معنى ( كونوا قردة ) أن صورهم مسخت فكانوا قردة حقيقيين ، والآية ليست نصا فيه ، ولم يبق إلا النقل ، ولو صح لما كان في الآية عبرة ولا موعظة للعصاة ؛ لأنهم يعلمون بالمشاهدة أن الله لا يمسخ كل عاص فيخرجه عن نوع الإنسان ، إذ ليس ذلك من سننه في خلقه ، وإنما العبرة الكبرى في العلم بأن من سنن الله - تعالى - في اللذين خلوا من قبل أن من يفسق عن أمر ربه ، ويتنكب الصراط الذي شرعه له ، ينزل عن مرتبة الإنسان ويلتحق بعجماوات الحيوان . وسنة الله - تعالى - واحدة ، فهو يعامل القرون الحاضرة بمثل ما عامل به القرون الخالية ، ولذلك قال : ( فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين ) أي جعلنا هذه العقوبة نكالا ، وهو ما يفعل بشخص من إيذاء وإهانة ليعتبر غيره ؛ أي عبرة ينكل من يعلم بها أي يمتنع عن اعتداء الحدود ، ومن هذه المادة ( النكل ) للقيد ، أو هو أصلها ومنها النكول عن اليمين في الشرع وهو الامتناع ، وما بين يديها يراد به من وقعت في زمنهم كما يراد بما خلفها من بعدهم إلى ما شاء الله - تعالى .

وأما كونها موعظة للمتقين ، فهو أن المتقي يتعظ بها في نفسه بالتباعد عن الحدود التي يخشى اعتداؤها ( تلك حدود الله فلا تقربوها ) ( 2 : 187 ) ويعظ بها غيره أيضا ، ولا يتم كون تلك العقوبة نكالا للمتقدمين والمتأخرين وموعظة للمتقين ، إلا إذا كانت جارية على السنة المطردة في تربية الأمم وتهذيب الطباع ، وذلك ما هو معروف لأهل البصائر ، ومشهور عند عرفاء الأوائل والأواخر ( وحديث المسخ والتحويل ، وأن أولئك قد تحولوا من أناس إلى قردة وخنازير إنما قصد به التهويل والإغراب ؛ فاختيار ما قاله مجاهد هو الأوفق بالعبرة والأجدر بتحريك الفكرة ) .

[ ص: 286 ] وأقول : إنه ليس في تفسير الآية حديث مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - نص فيه على كون ما ذكر مسخا لصورهم وأجسادهم . وقد ذكر الحافظ ابن كثير في تفسيره قول مجاهد في أن المسخ معنوي ، وقول الآخرين إنه صوري ، ثم قال : والصحيح أنه معنوي صوري ، فما مراده بذلك ؟ .

التالي السابق


الخدمات العلمية