صفحة جزء
( فصل في ضياع كثير من الإنجيل وتحريف كتب النصارى المقدسة ) أولا : إن الكتب التي يسمونها الأناجيل الأربعة تاريخ مختصر للمسيح عليه السلام لم يذكر فيها إلا شيء قليل من أقواله وأفعاله في أيام معدودة ، بدليل قول يوحنا في آخر إنجيله : " هذا هو التلميذ الذي يشهد بهذا ، وكتب هذا ، ونعلم أن شهادته حق ، وأشياء أخرى كثيرة صنعها يسوع إن كتبت واحدة واحدة فلست أظن أن العالم نفسه يسع الكتب المكتوبة ، آمين " .

هذه العبارة يراد بها المبالغة في بيان أن الذي كتب عن المسيح لا يبلغ عشر معشار تاريخه . ومن البديهي أن تلك الأعمال الكثيرة التي لم تكتب ، وقعت في أزمنة كثيرة ، وأنه تكلم في تلك الأزمنة وعند تلك الأعمال كثيرا . فهذا كله قد ضاع ونسي ، وحسبنا هذا حجة عليهم في إثبات قول الله تعالى : ( فنسوا حظا مما ذكروا به ) وحجة على بعض علمائنا الذين ظنوا أن كتبهم حفظت وتواترت . قال صاحب ذخيرة الألباب : " إن الإنجيل لا يستغرق كل أعمال المسيح ، ولا يتضمن كل أقواله كما شهد به القديس يوحنا " .

ثانيا : الإنجيل في الحقيقة واحد ، وهو ما جاء به المسيح عليه السلام من الهدى والبشارة بخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم ، وهو ما كان يدور ذكره على ألسنة كتاب تلك التواريخ [ ص: 240 ] الأربعة وغيرهم ، حكاية عن المسيح وعن ألسنتهم أنفسهم ، قال متى حكاية عنه : ( 26 : 13 الحق أقول لكم حيثما يكرز بهذا الإنجيل في كل العالم يخبر أيضا بما فعلته هذه تذكارا لها ) أي ما فعلته المرأة التي سكبت قارورة الطيب على رأسه . أوجب عليهم أن يخبروا كل من يبلغونهم الإنجيل في عالم اليهودية كلها بما فعلته تلك المرأة ، فخبر تلك المرأة ليس من الإنجيل الذي جاء في كلام المسيح ، وقد ذكر في تلك التواريخ امتثالا لأمره . وسميت تلك التواريخ أناجيل لأنها تتكلم عن إنجيل المسيح ، وتجيء بشيء منه ; ولذلك بدأ مرقس تاريخه بقوله : " بدء إنجيل يسوع المسيح " ، ثم قال حكاية عن المسيح : ( 1 : 15 فتوبوا وآمنوا بالإنجيل ) فالإنجيل الذي أمر الناس أن يؤمنوا به ليس هو أحد هذه التواريخ الأربعة ، ولا مجموعها ، وهو الذي سماه بولس في رسالته الأولى إلى أهل تسالونيكي " الإنجيل المطلق " ( 2 : 4 ) وإنجيل الله ( 2 : 8 و 9 ) وإنجيل المسيح ( 3 : 2 ) والكتاب الإلهي يضاف إلى الله ، بمعنى أنه أوحاه ، وإلى النبي بمعنى أنه أوحي إليه أو جاء به ، كما يقال توراة موسى .

ثالثا : كانت الأناجيل في القرون الأولى للمسيح كثيرة جدا ، حتى قيل : إنها بلغت زهاء سبعين إنجيلا ، وقال بعض مؤرخي الكنيسة : إن الأناجيل الكاذبة كانت 35 إنجيلا ، وقد رد صاحب كتاب ( ذخيرة الألباب ) الماروني القول بكثرتها ، وقال إن سبب ذلك تسمية الواحد بعدة أسماء ، وقال : إن الخمسة والثلاثين لا تكاد تبلغ العشرين ، وعدها كلها ، وذكر أن بعضها مكرر الاسم ، وذكر منها إنجيل القديس برنابا ، وذكر أن جاحدي الوحي طعنوا في الأناجيل أربعة مطاعن : ( 1 ) : أن الآباء الذين سبقوا القديس يوستينوس الشهيد لم يذكروا إلا أناجيل كاذبة ومدخولة .

( 2 ) : لا سبيل إلى إظهار أسفار العهد الجديد التي خطها مؤلفوها .

( 3 ) : قد فات الجميع معرفة الموضع والعهد اللذين كتبت فيهما .

( 4 ) أن كورنتس وكربوكراتوس قد نبذا ظهريا منذ أوائل الكنيسة إنجيل القديس لوقا ، والألوغيين إنجيل القديس يوحنا ، ولم يستطع أن يرد هذه الاعتراضات ردا مقبولا عند مستقلي الفكر .

وقال الدكتور بوست البروتستاني في قاموس الكتاب المقدس : إن نقص الأناجيل غير القانونية ظاهر ; لأنها مضادة لروح المخلص وحياته . ونحن نقول : إننا قد اطلعنا على واحد منها ، وهو إنجيل برنابا ، فوجدناه أكمل من مجموع الأربعة في تقديس الله وتوحيده ، وفي الحث على الآداب والفضائل ، فإذا كان هذا برهانهم ، على رد تلك الأناجيل الكثيرة ، وإثبات هذه الأربعة ، فهو برهان يثبت صحة إنجيل برنابا قبل غيره ، أو دون غيره .

رابعا : بدئ تحريف الإنجيل من القرن الأول ، قال بولس في رسالته إلى أهل غلاطية : ( 1 : 6 إني أتعجب أنكم تنتقلون هكذا سريعا عن الذي دعاكم بنعمة المسيح إلى إنجيل آخر . لا ليس هو آخر غير أنه يوجد قوم يزعجونكم ، ويريدون أن يحولوا إنجيل المسيح ) . [ ص: 241 ] فالمسيح كان له إنجيل واحد ، وبين بولس أنه كان في عصره من القرن الأول أناس يدعون المسيحين إلى إنجيل غيره بالتحويل ; أي التحريف كما في الترجمة القديمة ، وفي ترجمة الجزويت ( يقلبوا ) بدل ( يحولوا ) وهي أبلغ في التحريف والتبديل ، وبين بولس أن الناس كانوا ينتقلون سريعا إلى دعاة هذا الإنجيل المحرف المحول عن أصله الذي جاء به المسيح .

وقد بين بولس في رسالته الثانية إلى أهل كورنثيون : ( 11 : 15 - 16 ) أن هؤلاء القوم الذين يحرفون إنجيل المسيح " رسل كذبة فعلة ماكرون مغيرون شكلهم إلى رسل المسيح " ، وتتمة العبارة تدل أنهم كانوا كرسل المسيح ، ويتشبهون بهم كما يتشبه الشيطان بالملائكة ; إذ " يغير شكله إلى ملاك نور " ، وفي الفصل الخامس عشر من سفر الأعمال ما يوضح هذه المسألة ، وهو أن اليهود كانوا ينبثون بين المسيحيين ويعلمونهم غير ما يعلمهم رسل المسيح ، وأن المشايخ والرسل أرسلوا برنابا وبولس إلى أنطاكية ; ليحذروا أهلها من هؤلاء المعلمين الكاذبين ، وأن بولس وبرنابا تشاجرا وافترقا هنالك ، وهما ما تشاجرا وافترقا إلا لاختلافهما في حقيقة تعليم المسيح ; فبرنابا يذكر في مقدمة إنجيله أن بولس كان من الذين خالفوا المسيح في تعليمه . ولا شك أن برنابا أجدر بالتقديم والتصديق من بولس ; لأنه تلقى عن المسيح مباشرة ، وكان بولس عدوا للمسيح والمسيحيين ، ولولا أن قدمه برنابا للرسل لما وثقوا بدعواه التوبة والإيمان بالمسيح ، ولكن النصارى رفضوا إنجيل برنابا المملوء بتوحيد الله وتنزيهه ، وبالحكمة والفضيلة ، وآثروا عليه رسائل بولس وأناجيل تلاميذه لوقا ومرقس ، وكذا يوحنا ، كما حققه بعض علماء أوربا ; لأن تعاليم بولس كانت أقرب إلى عقائد الرومانيين الوثنية ، فكانوا هم الذين رجحوها ، ورفضوا ما عداها ; إذ كانوا هم أصحاب السلطة الأولى في النصرانية ، وهم الذين كونوها بهذا الشكل .

خامسا : اختلف علماء الكنيسة وعلماء التاريخ في الأناجيل الأربعة التي اعتمدوها في القرن الرابع : من هم الذين كتبوها ؟ ومتى كتبوها ؟ وبأي لغة كتبت ؟ وكيف فقدت نسخها الأصلية ؟ كما ترى ذلك مفصلا في دائرة المعارف الفرنسية الكبرى ، وفي غيرها من كتب الدين والتاريخ ، وهذه كلمات من كتب المدافعين عنها : قال صاحب كتاب ( مرشد الطالبين إلى الكتاب المقدس الثمين ) : " إن متى بموجب اعتقاد جمهور المسيحيين كتب إنجيله قبل مرقس ولوقا ويوحنا ، ومرقس ولوقا كتبا إنجيلهما قبل خراب أورشليم ، ولكن لا يمكن الجزم في أية سنة كتب كل منهم بعد صعود المخلص ; لأنه ليس عندنا نص إلهي على ذلك " .

( إنجيل متى ) : قال صاحب ذخيرة الألباب : إن القديس متى كتب إنجيله في السنة 41 للمسيح . . . باللغة المتعارفة يومئذ في فلسطين ، وهي العبرانية ، أو السيروكلدانية ( ثم قال ) : [ ص: 242 ] ثم ما عتم هذا الإنجيل أن ترجم إلى اليونانية ، ثم تغلب استعمال الترجمة على الأصل الذي لعبت به أيدي النساخ الأبونيين ومسخته بحيث أضحى ذلك الأصل هاملا ، بل فقيدا ، وذلك منذ القرن الحادي عشر ، انتهى .

أقول : يا ليت شعري ، من هو الذي ترجم إنجيل متى باليونانية ؟ ومن عارض هذه الترجمة على الأصل قبل أن يعبث به النساخ ، ويمسخوه ؟ الله أعلم .

ثم قال صاحب الذخيرة : " يترجح أنه كتبه في نفس أورشليم " ، وقال : " إنما هو رواية جدلية عن المسيح ، لا ترجمة حياته " .

( وقال ) : إن البروتستانت المتأخرين امتروا وشكوا في كون الفصلين الأولين منه لمتى .

وقال الدكتور ( بوست ) في قاموس الكتاب المقدس : واختلف القول بخصوص لغة هذا الإنجيل ; هل هي العبرانية ، أو السريانية التي كانت لغة فلسطين في تلك الأيام ؟ وذهب آخرون إلى أنه كتب باليونانية كما هو الآن ، ثم تكلم في شبهة عظيمة على أصل هذا الإنجيل ، تكلم فيها صاحب الذخيرة أيضا ; وهي أن شواهده في العظات من الترجمة السبعينية للعهد العتيق ، وفي بقية القصة من الترجمات العبرانية ، وأجاب كل منهما عن ذلك بما تراءى له ، ثم رجح ( بوست ) أنه ألف باليونانية ، خلافا لجمهور رؤساء الكنيسة المتقدمين . فثبت بهذا وذاك أنه لا علم عندهم بتاريخه ولا لغته ، " وإن هم إلا يظنون " .

ثم قال : " ولا بد أن يكون هذا الإنجيل قد كتب قبل خراب أورشليم ، إلى أن قال : ويظن البعض أن إنجيلنا الحالي كتب بين سنة 60 ، وسنة 65 " ، وقد علمت أن صاحب الذخيرة زعم أنه كتب سنة 41 ، وإن هي إلا ظنون وأوهام ، يناطح بعضها بعضا .

وأما علماء النصارى الأقدمون فالمأثور عنهم أن متى لم يكتب هذا الإنجيل ، وإنما كتب بعض أقوال المسيح باللغة العبرانية ، والنصارى يحتجون الآن على كون هذه الأناجيل ، التي لا سند لها لفظيا ولا كتابيا ، كانت معروفة في العصور الأولى بأقوال لأولئك العلماء المتقدمين ، هي حجة عليهم لا لهم ، وقد جاء في المنار بيان ذلك غير مرة .

وأقدم شهادة يتناقلونها في ذلك شهادة ( بابياس ) أسقف هيرا بوليس في منتصف القرن الثاني ; فقد نقل عنه ( أوسابيوس ) المتوفى سنة 340 ما ترجمته : " إن متى كتب مجموعة من الجمل باللغة العبرانية ، وقد ترجمها كل بحسب طاقته " .

ويمتاز إنجيل متى بأن من نسب إليه من تلاميذ المسيح ، وبأنه أقرب إلى التوحيد وأبعد عن الوثنية من سائر الأناجيل .

( إنجيل مرقس ) ذكر صاحب الذخيرة أن مرقس كان عبرانيا ملة ( أي : نسبا ) [ ص: 243 ] وأنه كان تلميذا لبطرس ، وتبناه بطرس ، وأنه اقتبس إنجيله من إنجيل متى ، ومن خطب بطرس ، وأن بعض المتأخرين زعموا أنه كان يوجد إنجيل سابق لإنجيلي متى ومرقس ، أخذا عنه إنجيليهما ، وأن بعض البروتستانت شكوا في الأعداد الاثني عشر الأخيرة من الفصل السادس عشر من هذا الإنجيل لأسباب منها أنه لا ذكر لها في النسخ الخطية القديمة .

وقال ( بوست ) : " مرقس لقب يوحنا ، يهودي ، يرجح أنه ولد في أورشليم .

( قال ) : وتوجه مرقس مع بولس وبرنابا خاله في رحلتهم التبشيرية الأولى ، غير أنه فارقهما في ( برجه ) فصار علة مشاجرة قوية بين بولس وبرنابا ، وبعد ذلك تصافح مع بولس ، فرافقه إلى ( رومية ) وكان مع بطرس لما كتب رسالته الأولى ( 1 بط 5 : 13 ) ثم مع تيموثاوس في ( أفسس ) ولا يعرف شيء حقيقي عن حياته بعد ذلك " .

ثم ذكر أنه كتب إنجيله باليونانية ، وشرح فيه بعض الكلمات اللاتينية ; فاستدل بذلك على أنه كتبه في رومية ( قال ) : إنما المشابهة بين إنجيلي متى ومرقس ، حملت بعض الناس على أن يعتقدوا أن الثاني مختصر من الأول .

ولم يذكر هذا ولا ذاك تاريخ كتابة هذا الإنجيل ، وقد روي عن إيرنياوس أنه كتبه بعد موت بطرس وبولس ، فلم يطلعا عليه ، فكيف نثق بأنه وعى ما سمعه من بطرس ، وأداه كما سمعه ؟ ! هذا إذا صحت نسبته إليه بسند متصل ، ولن تصح .

( إنجيل لوقا ) قال في الذخيرة : إن لوقا كان من أنطاكية ، ومن الشراح من ظن أنه إغريقي متهود ; لأنه لا يذكر الكتاب المقدس إلا نقلا عن الترجمة السبعينية ، " ومنهم من قال إنه وثني هاد إلى الحق وارتد إلى الدين القويم " وقال : " لوقا كان تلميذا ومعاونا لبولس " .

ثم قال ما نصه : " قد أغفل متى ومرقس بعض حوادث وأمور تتعلق بسيرة المسيح ، وقام بعض الكتبة واختلقوا ترجمة مموهة ليسوع المسيح ، وكثيرا ما فاتهم فيها الرواية والتدقيق ; فبعث ذلك بلوقا على وضع إنجيله ضنا بالحق ، فكتبه باليونانية ، وجاء كلامه أصح وأفصح وأشد انسجاما من كلام باقي مؤلفي العهد الجديد ، وذهب كثير من المحققين إلى أنه كتب إنجيله في السنة 53 للمسيح ، وقيل بل سنة 51 " .

ثم ذكر الخلاف في المكان الذي كتبه فيه ، وبين غرضه منه فقال في آخره : " وأن يكشف النقاب عن الأغلاط المدخولة في تراجم حياة المسيح المموهة ; أي الأناجيل التي ردتها الكنيسة بعد ، وينفي كل ركون إليها " ، ثم بين أنه كان يحمل إنجيلي متى ومرقس ، وأنه اقتبس منهما ما وافقهما فيه ، ثم عقد فصلا لما اعترض به على ما حذفوه وأسقطوه من هذا الإنجيل ; لأنهم رأوه لا يليق بالمسيح ، أو لعلة أخرى .

وقال الدكتور بوست في قاموسه : ظن بعضهم أنه - أي لوقا - مولود في أنطاكية ، [ ص: 244 ] إلا أن ذلك ناتج من اشتباهه بلوكيوس .

( قال ) : " ومن تغيير صيغة الغائب إلى صيغة المتكلمين في سياق القصة يستدل أن لوقا اجتمع مع بولس في ترواس ( أع 16 : 1 ) وذهب معه إلى فيلبي في سفره الثاني ، ثم اجتمع معه ثانية في فيلبي بعد عدة سنين ( أع 20 : 5 و 6 ) وبقي معه إلى أن أسر وأخذ إلى رومية ( أع 28 : 30 ) ولم يعلم شيء من حياته بعد ذلك .

فلينظر القارئ كيف يستنبطون تاريخه من أسلوب عبارته التي لم تصل إليهم بسند متصل ، لا صحيح ولا ضعيف ، كما استدلوا على كونه إيطاليا لا فلسطينيا من كلامه عن القطرين ; ذلك بأنه ليس عندهم نقل يعرفون به شيئا عن مؤسسي دينهم .

ثم قال : " وظن البعض أن لفظة ( إنجيلي ) الواردة في ( 2 : تي 2 : 8 ) تدل على أن بولس ألف إنجيل لوقا ، وأن لوقا لم يكن إلا كاتبا " .

ثم قال : " وقد كتب هذا الإنجيل قبل خراب أورشليم وقبل الأعمال ، ويرجح أنه كتب في قيصرية في فلسطين مدة أسر بولس سنة 58 - 60م ، غير أن البعض يظنون أنه كتب قبل ذلك " انتهى .

فأنت ترى من التعبير بلفظ الترجيح والظن ، ومن الخلاف بين سنة 51 و 53 ، كما في الخلاصة و 58 و 60 ، كما أنه لا علم عند القوم بشيء ( وإن هم إلا يظنون ) ( 2 : 78 ) ولعل الذين قالوا إن بولس هو الذي كتب هذا الإنجيل هم المصيبون ; لمشابهة أسلوبه لأسلوب رسائله ، باعترافهم . فإن قيل : وما تفعل بتحريفه ؟ قلت : هو كتحريفها ، وتجد فيه مثل ما تجد فيها من ذكر وضع بعض الناس لأناجيل كاذبة ، ومن لنا بدليل يثبت لنا صدقه هو ؟ وأنى لنا بتمييز هذه الأناجيل ، ومعرفة صادقها من كاذبها ؟

( إنجيل يوحنا ) تقول النصارى : إن يوحنا هذا هو تلميذ المسيح ابن زبدى وسالومه ، ويقول أحرار المؤرخين منهم غير ذلك ، كما في دائرة المعارف الفرنسية . ويرجح بعضهم أنه من تلاميذ بولس أيضا ، وذكر في الذخيرة ثلاثة أقوال في تاريخ كتابته ، وهي 64 و 94 و 97 ، وأنه كتبه باليونانية ليثبت ألوهية المسيح ، ويسد النقص الذي في الأناجيل الثلاثة " إجابة لرغبة أكثر الأساقفة ونواب كنائس آسيا ، وإلحاحهم عليه أن يبقى من بعده ذكرا مخلدا " ، ومفهوم هذا أنه لولا هذا الإلحاح لم يكتب ما كتب ، وإذا لبقيت أناجيلهم ناقصة ، وخلوا من شبهة على عقيدتهم المعقدة التي لا تعقل ; إذ لا تجد الشبهة عليها إلا في هذا الإنجيل الذي هو أكثر الأناجيل تناقضا ، وناهيك بجمعه بين الوثنية والتوحيد ، وقوله عن المسيح إنه إن كان يشهد لنفسه فشهادته حق ، ثم قوله عنه في موضع آخر : إنه وإن كان يشهد لنفسه فشهادته ليست حقا ، إلى أمثال ذلك .

[ ص: 245 ] وقال الدكتور بوست : " ويظن أنه كتب في أفسس بين سنة 70 و 95 ثم قال في الرد على علماء أوربا الأحرار ما نصه : " وقد أنكر بعض الكفار قانونية هذا الإنجيل ; لكراهتهم تعليمه الروحي ، ولا سيما تصريحه الواضح بلاهوت المسيح ، غير أن الشهادة بصحته كافية ، فإن بطرس يشير إلى آية منه ( 2 بط 1 : 14 قابل يو 21 : 18 ) وأغناطيوس وبوليكريس يقتطفان من روحه وفحواه ، وكذلك الرسالة إلى ديوكنيتس ، وباسيلدس وجوستينس الشهيد وتانيانس . وهذه الشواهد يرجع بنا زمانها إلى منتصف القرن الثاني ، وبناء على هذه الشهادة ، وعلى نفس كتابته الذي يوافق ما نعلمه من سيرة يوحنا ، نحكم أنه من قلمه ، وإلا فكاتبه من المكر والغش على جانب عظيم ، وهذا الأمر يعسر تصديقه ; لأن الذي يقصد أن يغش العالم لا يكون روحيا ، ولا يتصل إلى علو وعمق الأفكار والصلوات الموجودة فيه ، وإذا قابلناه بمؤلفات الآباء رأينا بينه وبينها بونا عظيما ، حتى نضطر للحكم أنه لم يكن منهم من كان قادرا على تأليف كهذا ، بل لم يكن بين التلاميذ من يقدر عليه إلا يوحنا ، ويوحنا ذاته لا يستطيع تأليفه بدون إلهام من ربه " انتهى .

أقول : إن من عجائب البشر أن يقول مثل هذا القول ، أو ينقله متعمدا له ، عالم طبيب كالدكتور بوست ! فإنه كلام لا يخفى بطلانه وتهافته على الصبيان ، ولا أعقل له تعليلا إلا أن يكون تصنعا وغشا ; لإرضاء عامة النصارى ، لا لإرضاء اعتقاده ووجدانه ، أو يكون التقليد الديني من الصغر قد ران على قلب الكاتب ، فسلبه عقله واستقلاله وفهمه في كل ما يتعلق بأمر دينه . وإليك البيان بالإيجاز : إن الدكتور بوست من أعلم الأوروبيين الذين خدموا دينهم في سورية ، وأوسعهم اطلاعا ، وهو يلخص في قاموسه هذا أقوى ما بسطه علماء اللاهوت في إثبات دينهم وكتبهم ورد اعتراضات العلماء عليها . فإذا كان هذا منتهى شوطهم في إثبات إنجيل يوحنا ، الذي هو عمدتهم في عقيدة تأليه المسيح ; فما هو الظن بكلام المؤرخين الأحرار ، والعلماء المستقلين في إبطال هذا الإنجيل ؟ !

ابتدأ رده على منكري هذا الإنجيل بأن بطرس أشار إلى آية منه في رسالته الثانية ، فهذا أقوى برهان عندهم على كون هذا الإنجيل كتب في العصر الأول .

فأول ما تقوله في رد هذا الدليل الوهمي أن رسالة بطرس الثانية كتبت في بابل سنة 64 و 68 كما قاله صاحب كتاب ( مرشد الطالبين إلى الكتاب المقدس الثمين ) وإنجيل يوحنا كتب سنة 95 أو 98 على ما اعتمده بوست وصاحب هذا الكتاب وسائر علماء طائفتهم ( البروتستانت ) فهو قد ألف بعد كتابة رسالة بطرس بثلاثين سنة أو أكثر على رأيهم ، فإذا وافقها في شيء فأول ما يخطر في بال العاقل أنه نقله عنها ، وإن ألف بعدها بعدة [ ص: 246 ] قرون ، فكيف يكون ذاك دليلا على صحته ؟ ولو لم يكن في رد هذه الشبهة الواهية إلا احتمال نقل المتأخر - وهو مؤلف إنجيل يوحنا - عن المتقدم - وهو بطرس - لكفى ، وهم جازمون بتقدمه عليه ، وإن لم يكن عندهم تاريخ صحيح لأحد منهما ، بل تاريخ ولادة إلههم وربهم الذي يؤرخون به كل شيء فيه خطأ ، كما حققه يعقوب باشا أرتين وغيره .

ونقول ثانيا : إننا قابلنا بين ( 2 بط 1 : 14 ) وبين ( يو 21 : 18 ) فلم نجد في كلام بطرس في ذلك العدد إشارة واضحة إلى ما ذكره يوحنا ، فعبارة بطرس التي سموها شهادة له ، هي قوله : " عالما أن خلع سكني قريب ، كما أعلن لي ربنا يسوع المسيح أيضا " ، وعبارة يوحنا المشهود لها هي أن المسيح قال لبطرس " الحق الحق أقول لك : لما كنت أكثر حداثة كنت تمنطق ذاتك ، وتمشي حيث تشاء ، ولكن متى شخت فإنك تمد يدك ، وآخر يمنطقك ، ويحملك حيث لا تشاء " .

فمعنى عبارة بطرس أنه يستبدل مسكنه باختياره ، ويرحل عن القوم الذين يكلمهم ، ومعنى عبارة المسيح أنه إذا شاخ وهرم يقوده من يخدمه ، ويشد له منطقته . فإن فرضنا أن بطرس كتب هذا بعد يوحنا لم يكن فيه أدنى شبهة على تصديق يوحنا في عبارته هذه ، فضلا عن تصديقه في كل إنجيله . فما أوهى دينا هذه أسسه ودعائمه !

ذكرني هذا الاستدلال نادرة رويت لي عن رجل هرم من صيادي السمك ( ولا أذكر هذا الوصف تعريضا بتلاميذ المسيح عليه السلام وعليهم الرضوان ) قال : إن رجلا غريبا من الدراويش علمه سورة لا يعرفها أحد من خلق الله سواهما ، إلا أن خطيب البلد يحفظ منها كلمتين يدلان على أصلها ، وأول هذه السخافة ، التي سماها سورة : الحمد لله الذين المددا ، عند النبي أشهدا ، نبينا محمدا ، في الجنان مخلدا ، إجت فاطمة الزهرا ، بنت خديجة الكبرى ، آلت لو يا بابتي يا بابتي علمني كلمتين . . . إلخ . والكلمتان اللتان يحفظهما الخطيب منهما هما " فاطمة الزهرا " و " خديجة الكبرى " عليهما السلام ; لأنه كان يقول في دعاء الخطبة الثانية ، بعد الترضي عن الحسن والحسين : " وارض اللهم عن أمهما فاطمة الزهرا ، وعن جدتهما خديجة الكبرى " .

ولا يخفى على القارئ ، أن الاتفاق بين هذه الأسجاع العامية ، وخطبة خطيب البلد في تينك الكلمتين أظهر من الاتفاق بين رسالة بطرس وإنجيل يوحنا ، بل ليس بين هذا الإنجيل ، وهذه الرسالة اتفاق ما فيما زعموه تكلفا وتحريفا للعبارة عن معناها .

وأما استدلاله باقتطاف أغناطيوس ، وبوليكريس من روح هذا الإنجيل فهو مثل استدلاله بشهادة بطرس له ، بل أضعف ; إذ معنى هذا الاقتطاف أنه روي عن هذين الرجلين شيء يتفق مع بعض معاني هذا الإنجيل . فإذا سلمنا أن هذا صحيح فهو لا يدل [ ص: 247 ] على أن هذا الإنجيل كان معروفا في زمنهما في القرن الثاني للمسيح ; لأنهما لم يذكراه ، ولم يعزوا إليه شيئا ، ويجوز أن يكون ما اتفقا فيه من المعنى ، إن صح ذلك ، ولم يكن كالاتفاق الذي ذكروه بينه وبين بطرس ، مقتبسا من كتاب آخر ، كان متداولا في ذلك الزمان ، كما يجوز أن يكون مأخوذا من التقاليد الموروثة عند بعض شعوبه ، مثال ذلك أن يوحنا انفرد باستعمال لفظ ( الكلمة ) والقول بألوهية الكلمة ، ولم يؤثر هذا عن غيره من مؤلفي الكتب المقدسة عندهم ، ولا عن أحد من تلاميذ المسيح ، وقد بينا في تفسير ( وكلمته ألقاها إلى مريم ) ( 4 : 171 ) أن هذه العقيدة وهذا اللفظ مما أثر عن اليونان والبراهمة والبوذيين وقدماء المصريين ، وبحث فيها أيضا ( فيلو ) الفيلسوف اليهودي المعاصر للمسيح . فإذا فرضنا أن ( أغناطيوس ) استعمل هذا اللفظ وذكر هذه العقيدة في القرن الثاني لا يكون هذا دليلا على نقلها عن يوحنا ، وعلى أن إنجيل يوحنا ورسالته ورؤياه كانت معروفة في القرن الثاني ; لاحتمال أن يكون نقل ذلك عن الأمم الوثنية التي كانت تدين بهذه العقيدة قبل يوحنا وقبل المسيح عليه السلام ، وإذا كان الاتفاق بينهما في المعنى الذي انفرد به يوحنا عن غيره لا يدل على ما ذكر ؛ فكيف يدل عليه الاتفاق في المعاني الأخرى ، التي لم ينفرد بها يوحنا ؟ .

فتبين من هذا النقد الوجيز أن ما ذكره بوست وسماه كغيره شهادة لإنجيل يوحنا ليس شهادة . وإن ما سميناه شهادة فلا مندوحة لنا عن القول بأنها شهادة زور ، وأما زعمهم أن كتابة هذا الإنجيل توافق سيرة يوحنا ، ولا يقدر عليه غيره فهو تمويه ، نقضوه بقولهم : إنه هو لا يقدر عليه أيضا ، إلا بالإلهام ; إذ كل ملهم يقدر بإقدار الله الذي ألهمه ، وليس ليوحنا عندهم سيرة تثبت أو تنفى .

بقي استدلاله الأخير على صحة هذا الإنجيل بأن لو لم يكن من قلم يوحنا لكان الكاتب له على جانب عظيم من المكر والغش ; قال : " وهذا الأمر يعسر تصديقه; لأن الذي يقصد أن يغش العالم لا يكون روحيا " . . . إلخ . فنقول : إن هذا الاستدلال ينبئ بسذاجة من اخترعه ونقله وغرارتهم ، وإن شئت قلت بغباوتهم ، أو قصدهم مخادعة الناس .

وبطلانه بديهي ، فإن الكاتب للمعاني الروحية لا يجب أن يكون روحيا ، والكاتب في الفضائل لا يقتضي العقل أن يكون فاضلا . وقد كان في مصر كاتب من أبلغ كتاب العربية في الأخلاق والفضائل ، ومع هذا وصفه بعض عارفيه بقوله : " إن حروف الفضيلة تتألم من لوكها بفمه ، ووخزها بسن قلمه " . وإن الروحانية التي تجدها في إنجيل برنابا وما فيه من تقديس الله وتنزيهه ، ومن الأفكار والصلوات ، لهو أعلى وأشد تأثيرا في النفس [ ص: 248 ] من إنجيل يوحنا . ويزعمون مع هذا كله أنه قصد به غش الناس وتحويلهم عن التثليث والشرك إلى التوحيد والتنزيه !

إن هذا المسلك الأخير الذي سلكه بوست في الاستدلال على صحة نسبة إنجيل يوحنا إليه يقبله المقلدون لعلماء اللاهوت عندهم ، بغير بحث ولا نظر ، والناظر المستقل يراه يؤدي إلى بطلان نسبته إليه ; لأسباب ، أهمها ثلاثة : ( 1 ) أنه جاء بعقيدة وثنية نقضت عقيدة التوحيد الخالص المقررة في التوراة وجميع كتب أنبياء بني إسرائيل ، وقد صرح المسيح بأنه ما جاء لينقض الناموس ، بل ليتممه ، وأصل الناموس وأساسه الوصايا العشر ، وأولها وأولاها بالبقاء ودوام البناء ، وصية التوحيد .

( 2 ) مخالفته في عقيدته وأسلوبه لكل ما هو مأثور عن جماعته وقومه قبل المسيح وبعده . ( 3 ) مخالفته للأناجيل التي كتبت قبله في أمور كثيرة ، أهمها تحاميه ما ذكر فيها من الأعراض البشرية المنسوبة إلى المسيح ، مما ينافي الألوهية ; كتجربة الشيطان له ، وخوفه من فتك اليهود به ، وتضرعه إلى الله خائفا متألما ; ليصرف عنه كيدهم وينقذه منهم ، وصراخه وقت الصلب من شدة الألم ، إلى غير ذلك .

ومن تأمل أساليب الأناجيل وفحواها يرى أن إنجيل يوحنا غريب عنها ، ويجزم بأن كاتبه متأخر ، سرت إليه عقائد الوثنيين ، فأحب أن يلقح بها المسيحيين .

ونقول ثالثا : إذا فرضنا أن موافقة بعض أهل القرن الثاني لهذا الإنجيل في روح معناه يعد شهادة له بأنه كان موجودا في منتصف القرن الثاني ؛ فأين الشهادة التي تثبت أنه كان موجودا في القرن الأول والصدر الأول مما بعده ، ثم تبين لنا من تلقاه عنه حتى وصل إلى أولئك الذين اقتطفوا من روحه ؟ !

بعد كتابة ما تقدم راجعت ( إظهار الحق ) فرأيته استدل على أن إنجيل يوحنا ليس من تصنيف يوحنا ، الذي هو أحد تلاميذ المسيح ، بعدة أمور : ( منها ) أسلوبه الذي يدل على أن الكاتب لم يكتب ما شاهده وعاينه ، بل ينقل عن غيره .

( ومنها ) آخر فقرة منه ، وهي ما أوردناه في الاستدلال على أنه لم يكتب عن أحوال المسيح وأقواله إلا القليل ، فإنه ذكر فيها يوحنا بضمير الغائب ، وأنه كتب وشهد بذلك ، فالذي ينقل هذا عنه لا بد أن يكون غيره ، وقصاراه أنه ظفر بشيء مما كتبه ، فحكاه عنه ونقله في ضمن إنجيله ، ولكن أين الأصل الذي ادعى أن يوحنا كتبه وشهد به ؟ وكيف نثق بنقله عنه ونحن لا نعرفه ، ورواية المجهول عند محدثي المسلمين وجميع العقلاء لا يعتد بها ألبتة !

( ومنها ) أنهم نقلوا أن الناس أنكروا كون هذا الإنجيل ليوحنا في القرن الثاني على [ ص: 249 ] عهد ( أرينيوس ) تلميذ ( بوليكارب ) الذي هو تلميذ يوحنا ، ولم يرد عليهم أرينيوس بأنه سمع من بوليكارب أن أستاذه يوحنا هو الكاتب له .

( ومنها ) نقله عن بعض كتبهم ما نصه " كتب ( إستادلن ) في كتابه : " إن كافة إنجيل يوحنا تصنيف طالب من طلبة مدرسة الإسكندرية بلا ريب " .

( ومنها ) أن المحقق ( برطشنيدر ) قال : إن هذا الإنجيل كله ، وكذا رسائل يوحنا ليست من تصنيفه ، بل صنفها أحد ( كذا ) في ابتداء القرن الثاني .

( ومنها ) أن المحقق ( كروتيس ) قال : إن هذا الإنجيل كان عشرين بابا ، فألحقت كنيسة أفساس الباب الحادي والعشرين بعد موت يوحنا .

( ومنها ) أن جمهور علمائهم ردوا إحدى عشرة آية من أول الفصل الثامن . . . إلخ .

سادسا : علمنا مما تقدم أن النصارى ليس عندهم أسانيد متصلة ولا منقطعة لكتبهم المقدسة ؛ وإنما بحثوا ونقبوا في كتب الأولين والآخرين ، وفلوها فليا لعلهم يجدون فيها شبهة دليل على أن لها أصلا كان معروفا في القرون الثلاثة الأولى للمسيح ، ولكنهم لم يجدوا شيئا صريحا يثبت شيئا منها ؛ وإنما وجدوا كلمات مجملة أو مبهمة ، فسروها كما شاءت أهواؤهم ، وسموها شهادات ، ونظموها في سلك الحجج والبينات ، وإن كانت هي أيضا غير منقولة عن الثقات ، ثم استنبطوا من فحواها ومضامينها مسائل متشابهة ، زعموا أن كلا منها يؤيد الآخر ويشهد له ، وقد أشرنا إلى ضعف كل واحدة من هاتين الطريقتين .

فثبت بهذا البيان الوجيز صدق قول القرآن المجيد : ( فنسوا حظا مما ذكروا به ) ( 5 : 14 ) وثبت به أنه كلام الله ووحيه ; إذ ليس هذا مما يعرف بالرأي حتى يقال إن النبي صلى الله عليه وسلم قد اهتدى إليه بعقله ونظره ، كيف وقد خفي هذا عن أكثر علمائنا الأعلام عدة قرون ; لعدم اطلاعهم على تاريخ القوم ، وأغرب من هذا أن بعض كبراء المصريين الذين ارتقوا بعلمهم واختبارهم إلى أرفع المناصب ، سألني مرة : كيف نقول نحن المسلمين أن للنصارى كتابا واحدا يسمى الإنجيل هو عبارة عما أوحاه الله إلى عيسى ، فدعا قومه إلى الإيمان به ، مع أن النصارى أنفسهم يقولون هذا ولا يعرفونه ، وإنما عندهم أربعة أناجيل هي عبارة عن قصة المسيح وسيرته ؟ فأجبته : إن الإنجيل الذي ننسبه إلى المسيح ونقول إنه هو ما أوحاه الله إليه هو الذي يذكر في هذه الأناجيل عن لسان المسيح باللفظ المفرد ، إلى آخر ما علم مما تقدم .

ونظير هذه العبارة وأمثالها في الدلالة على كون القرآن من عند الله تعالى قوله تعالى : ( فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء ) ( 5 : 14 ) فأنت ترى مصداق هذا القول بين فرقهم ، وبين دولهم ، لم ينقطع زمنا .

[ ص: 250 ] سابعا : أن أحد فلاسفة الهنود درس تاريخ الأديان كلها ، وبحث فيها بحث مستقل منصف ، وأطال البحث في النصرانية لما للدول المنسوبة إليها من الملك وسعة السلطان والتبريز في الفنون والصناعات ، ثم نظر في الإسلام فعرف أنه الدين الحق فأسلم وألف كتابا باللغة الإنكليزية ، سماه ( لماذا أسلمت ) بين فيه ما ظهر له من مزايا الإسلام على جميع الأديان ، وكان أهمها عنده أن الإسلام هو الدين الوحيد الذي له تاريخ صحيح محفوظ ، فالآخذ به يعلم أنه هو الدين الذي جاء به محمد بن عبد الله النبي الأمي العربي ، المدفون في المدينة المنورة من بلاد العرب ، وقد كان من مثار العجب عنده أن ترضى أوربة لنفسها دينا ، ترفع من تنسبه إليه عن مرتبة البشر فتجعله إلها ، وهي لا تعرف من تاريخه شيئا يعتد به ، فإن هذه الأناجيل الأربعة على عدم ثبوت أصلها ، وعدم الثقة بتاريخها ومؤلفيها ، لا تذكر من تاريخ المسيح إلا وقائع قليلة حدثت - كما تقول - في أيام معدودة . ولا يذكر فيها شيء يعتد به عن نشأة هذا الرجل وتربيته وتعليمه ، وأيام صباه وشبابه ، ولله في خلقه شئون .

التالي السابق


الخدمات العلمية