1. الرئيسية
  2. تفسير المنار
  3. سورة المائدة
  4. تفسير قوله تعالى والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم
صفحة جزء
[ ص: 315 ] وقد اختلف العلماء في القدر الذي يوجب الحد من السرقة ، فروي عن الحسن البصري وداود الظاهري ، أنه يثبت القطع بالقليل والكثير ; عملا بإطلاق الآية وحديث " لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ، ويسرق الحبل فتقطع يده " رواه الشيخان من طريق الأعمش عن أبي هريرة ، وعليه الخوارج . وذهب جمهور السلف والخلف ، ومنهم الخلفاء الأربعة ، إلى أن القطع لا يكون إلا في سرقة ربع دينار ( أي ربع مثقال من الذهب ) أو ثلاثة دراهم من الفضة ، والشافعي جعل ربع الدينار هو الأصل في تقويم الأشياء المسروقة ; لأنه الأصل في جواهر الأرض كلها ، وروي عن مالك أن كلا من الذهب والفضة أصل معتبر في نفسه ، وفي رواية أخرى - قيل إنها المشهور عنه - أن التقويم بدراهم الفضة أصل معتبر في نفسه ، وقال بعض العلماء : إن العروض تقوم بما كان غالبا في نقود أهل البلد ، فيختلف باختلاف البلاد ، والأصل في هذا المذهب وفي هذا الخلاف في التقدير ، حديث عائشة " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدا " رواه أحمد والشيخان وأصحاب السنن إلا ابن ماجه ، وفي رواية مرفوعا " لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار ، فصاعدا " رواه أحمد ومسلم وابن ماجه ، وفي رواية أخرى للنسائي مرفوعا " لا تقطع اليد فيما دون ثمن المجن ، قيل لعائشة : ما ثمن المجن ؟ قالت : ربع دينار " ، ويؤيده حديث ابن عمر في الصحيحين والسنن الثلاث " أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع في مجن ثمنه ثلاثة دراهم " وفي رواية " قيمته ثلاثة دراهم " وأجابوا عن حديث أبي هريرة بأن الأعمش راويه فسر البيضة ببيضة الحديد التي تلبس للحرب ، وهي كالمجن ( الترس ) وقد يكون ثمنها أكثر من ثمنه ، ومذهب الحنفية أن النصاب الموجب للقطع عشرة دراهم فأكثر ، ولا قطع في أقل منها ، واحتجوا برواية عند البيهقي والطحاوي والنسائي عن ابن عباس وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده في تقدير ثمن المجن بعشرة دراهم ، ورجحوها على حديث الصحيحين والسنن بإدخالها في عموم درء الحدود بالشبهات ، ولكن في إسنادها محمد بن إسحاق ، وقد عنعن ، ولا يحتج بحديثه معنعنا ، فكيف يعارض حديث الصحيحين ، بل الجماعة كلهم ؟ وهنالك مذاهب أخرى كثيرة في قدر النصاب ، لا نذكرها لضعف أدلتها ، بل بعضها لا يعرف له دليل .

ووردت أحاديث في أن الثمر والكثر ( وهو بالتحريك : جمار النخل ) لا قطع فيها ، وأما الثمر بعد إحرازه فكغيره من المال ، وقيل : لا قطع فيه ، واشترط الجمهور في القطع أن يسرق الشيء من حرز مثله ، فإن لم يكن محرزا محفوظا فلا قطع ، وتفصيل ذلك في كتب الحديث وشروحها .

وتثبت السرقة بالإقرار والبينة ، ويسقط الحد بالعفو عن السارق قبل رفع أمره إلى الإمام ( الحاكم ) وكذا بعده عند بعض العلماء ، وهو مخالف للأحاديث الصريحة ، وورد [ ص: 316 ] النهي عن إقامة الحد في الغزو ، وتفصيل ذلك في محله . وأما التوبة فقد بين الله حكمها في قوله : ( فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم ) أي فمن تاب من السراق ورجع عن السرقة وغيرها من المعاصي رجوع ندم وعزم على الاستقامة ، من بعد ظلمه لنفسه بامتهانها وسفهها ، وللناس بالاعتداء على أموالهم ، وأصلح نفسه وزكاها بالصدقة المضادة للسرقة ، وبغير ذلك من أعمال البر - فإن الله تعالى يقبل توبته ، ويرجع إليه بالرضاء والإثابة ، ويغفر له ويرحمه ، فإن ذلك من مقتضى اسمه الغفور واسمه الرحيم .

وهل يسقط الحد عن التائب ؟ قال الجمهور : لا يسقط عنه مطلقا ، وقال بعض السلف : بل يسقط عنه ، وإذا قيست السرقة على الحرابة والإفساد فالقول بسقوط الحد ظاهر إن تاب قبل رفع أمره إلى الحاكم ، ولكن لا يسقط حق المسروق منه ، بل لا تصح التوبة إلا بإعادة المال المسروق إليه بعينه إن بقي ، وإلا دفع قيمته إن قدر ، ولا يظهر لنا وجه لما قاله بعض الفقهاء من عدم الجمع بين الحد وغرامة المال المسروق ; فإن الحد حق الله تعالى لمصلحة عباده عامة ، والمال حق من سرق منه خاصة .

التالي السابق


الخدمات العلمية