1. الرئيسية
  2. تفسير المنار
  3. سورة المائدة
  4. تفسير قوله تعالى يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم
صفحة جزء
( وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين ) هذا تعجيب من الله لنبيه ببيان حال من أغرب أحوال هؤلاء القوم ، وهو أنهم أصحاب شريعة يرغبون عنها ، ويتحاكمون إلى نبي جاء بشريعة أخرى ، وهم لم يؤمنوا به ; أي وكيف يحكمونك في قضية كقضية الزانيين ، أو قضية الدية ، والحال أن عندهم التوراة ، التي هي شريعتهم ، فيها حكم الله فيما يحكمونك فيه ، ثم يتولون عن حكمك بعد أن رضوا به ، وآثروه على شريعتهم ; لموافقته لها ؟ أي إذا فكرت في هذا رأيته من عجيب أمرهم ، وسببه أنهم ليسوا بالمؤمنين إيمانا صحيحا بالتوراة ، ولا بك ، وإنما هم ممن جاء فيهم ( أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم ) ( 45 : 23 ) [ ص: 327 ] فإن المؤمن الصادق بشرع لا يرغب عنه إلى غيره إلا إذا آمن بأن ما رغب إليه شرع من الله أيضا أيد به الأول ، أو نسخه لحكمة اقتضت ذلك باختلاف أحوال عباده . وهؤلاء تركوا حكم التوراة التي يدعون الإيمان بها واتباعها ; لأنه لم يوافق هواهم ، وجاءوك يطلبون حكمك رجاء أن يوافق هواهم ، ثم يتولون ويعرضون عنه إذا لم يوافق هواهم . فما هم بالمؤمنين بالتوراة ، ولا بك ، ولا بمن أنزل على موسى التوراة وأنزل عليك القرآن ، وقد يقولون إنهم مؤمنون ، وقد يظنون أيضا أنهم مؤمنون ، غافلين عن كون الإيمان يقينا في القلب ، يتبعه الإذعان بالفعل ، ويترجم عنه اللسان بالقول ، ولكن اللسان قد يكذب عن علم وعن جهل ، فمن أيقن أذعن ، ومن أذعن عمل ; لأن الإيمان الإذعاني هو صاحب السلطان الأعلى على الإرادة ، والإرادة هي المصرفة للجوارح في الأعمال .

أما حكم الرجم في التوراة التي بين أيدينا اليوم فهو خاص ببعض الزناة ، قال في الفصل 22 سفر التثنية ، بعد بيان أن من تزوج عذراء فوجدها ثيبا ترجم عند باب بيت أبيها : ( 22 إذا وجد رجل مضطجعا مع امرأة زوجة بعل ، يقتل الاثنان ، الرجل المضطجع مع المرأة والمرأة ، فتنزع الشر من إسرائيل 23 إذا كانت فتاة عذراء مخطوبة لرجل ، فوجدها رجل في المدينة فاضطجع معها ، فأخرجوهما كليهما إلى باب تلك المدينة ، وارجموهما بالحجارة حتى يموتا ، الفتاة من أجل أنها لم تصرخ في المدينة ، والرجل من أجل أنه أذل امرأة صاحبه ، فتنزع الشر من وسطك ) ثم ذكر أحكاما أخرى في الزنا ، منها قتل أحد الزانيين ، ومنها دفع غرامة ، والتزويج بالمزني بها .

ومما يجب التنبيه له هنا أن دعاة النصرانية يحتجون بهذه الآية وما في معناها على كون التوراة التي في أيديهم وأيدي اليهود ، هي ما أنزله الله تعالى على موسى ، لم يعرض لها تغيير ولا تحريف ; وذلك أنهم كأولئك اليهود الذين يأخذون من القرآن ما يوافق أهواءهم ، ويردون ما يخالفها جدلا ، والمؤمنون يؤمنون بالكتاب كله ، فالكتاب بين لنا أن عندهم التوراة ; أي الشريعة ، وأن فيها حكم الله في القضية التي تحاكموا فيها إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد صدق الله تعالى وهو أصدق القائلين ، وبين لنا أيضا أنهم حرفوا الكلم عن مواضعه ، ومن بعد مواضعه ، وأنهم نسوا حظا مما ذكروا به ، وأنهم إنما أوتوا نصيبا من الكتاب ؛ إذ نسوا نصيبا آخر وأضاعوه ، وقد صدق الله تعالى في ذلك أيضا ، ولما خرجت أمة القرآن بالقرآن من الأمية ، وعرفوا تاريخ أهل الكتاب وغيرهم ; كالبابليين ، ظهر لهم أن إخبار القرآن بذلك كان من معجزاته الدالة على أنه من عند الله ; إذ ظهر لهم أن اليهود قد فقدوا التوراة التي كتبها موسى ، ثم لم يجدوها ، وإنما كتب لهم بعض علمائهم ما حفظوه منها ، ممزوجا بما ليس منها ، والتوراة التي في أيديهم تثبت ذلك ، كما بيناه في غير هذا الموضع ، ومنه تفسير أول سورة آل عمران ، وتفسير الآيات 13 - 15 من هذه السورة .

التالي السابق


الخدمات العلمية