صفحة جزء
( الحكم بالقوانين الإنكليزية في الهند ) ( س 77 ) ومنه : أيجوز للمسلم المستخدم عند الإنكليز الحكم بالقوانين الإنكليزية ، وفيها الحكم بغير ما أنزل الله ؟ ( ج ) إن هذا السؤال يتضمن مسائل من أكبر مشكلات هذا العصر ؛ كحكم المؤلفين للقوانين وواضعيها لحكوماتهم ، وحكم الحاكمين بها ، والفرق بين دار الحرب ودار الإسلام فيها ، وإننا نرى كثيرين من المسلمين المتدينين يعتقدون أن قضاة المحاكم الأهلية الذين يحكمون بالقانون كفار ; أخذا بظاهر قوله تعالى : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) ويستلزم الحكم بتكفير القاضي الحاكم بالقانون تكفير الأمراء والسلاطين الواضعين للقوانين ; فإنهم وإن لم يكونوا ألفوها بمعارفهم ، فإنها وضعت بإذنهم ، وهم الذين يولون الحكام ليحكموا بها ، ويقول الحاكم من هؤلاء : أحكم باسم الأمير فلان ; لأنني نائب عنه بإذنه ، ويطلقون على الأمير لفظ ( الشارع ) .

أما ظاهر الآية فلم يقل به أحد من أئمة الفقه المشهورين ، بل لم يقل به أحد قط ، فإن ظاهرها يتناول من لم يحكم بما أنزل الله مطلقا ؛ سواء حكم بغير ما أنزل الله تعالى أم لا ، وهذا لا يكفره أحد من المسلمين ، حتى الخوارج الذين يكفرون الفساق بالمعاصي ، ومنها الحكم بغير ما أنزل الله ، واختلف أهل السنة في الآية ، فذهب بعضهم إلى أنها خاصة باليهود ، وهو [ ص: 336 ] ما رواه سعيد بن منصور وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس ، قال : إنما أنزل الله " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ، والظالمون ، والفاسقون " في اليهود خاصة ، وأخرج ابن جرير عن أبي صالح قال : الثلاث الآيات التي في المائدة " ومن لم يحكم بما أنزل الله " . . . إلخ ليس في أهل الإسلام منها شيء ، هي في الكفار ، وذهب بعضهم إلى أن الآية الأولى التي فيها الحكم بالكفر للمسلمين ، والثانية التي فيها الحكم بالظلم لليهود ، والثالثة التي فيها الحكم بالفسق للنصارى ، وهو ظاهر السياق ، وذهب آخرون إلى العموم فيها كلها ، ويؤيده قول حذيفة لمن قال إنها كلها في بني إسرائيل : نعم الإخوة لكم بنو إسرائيل ; أن كان لكم كل حلوة ولهم كل مرة ، كلا والله لتسلكن طريقهم قد الشراك . رواه عبد الرزاق ، وابن جرير ، والحاكم ، وصححه ، وأول هذا الفريق الآية بتأويلين ؛ فذهب بعضهم إلى أن الكفار هنا ورد بمعناه اللغوي للتغليظ لا معناه الشرعي الذي هو الخروج من الملة ، واستدلوا بما رواه ابن المنذر ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في السنن ، عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال في الكفر الواقع في إحدى الآيات الثلاث : إنه ليس بالكفر الذي تذهبون إليه ، إنه ليس كفرا ينقل عن الملة ، كفر دون كفر .

وذهب بعضهم إلى أن الكفر مشروط بشرط معروف من القواعد العامة ، وهو أن من لم يحكم بما أنزل الله منكرا له أو راغبا عنه لاعتقاده بأنه ظلم ، مع علمه بأنه حكم الله ، أو نحو ذلك مما لا يجامع الإيمان والإذعان ، ولعمري إن الشبهة في الأمراء الواضعين للقوانين أشد ، والجواب عنهم أعسر ، وهذا التأويل في حقهم لا يظهر ، وإن العقل ليعسر عليه أن يتصور أن مؤمنا مذعنا لدين الله يعتقد أن كتابه يفرض عليه حكما ، ثم هو يغيره باختياره ، ويستبدل به حكما آخر بإرادته ; إعراضا عنه ، وتفضيلا لغيره عليه ، ويعتد مع ذلك بإيمانه وإسلامه . والظاهر أن الواجب على المسلمين في مثل هذه الحال مع مثل هذا الحاكم ، أن يلزموه بإبطال ما وضعه مخالفا لحكم الله ، ولا يكتفوا بعدم مساعدته عليه ، ومشايعته فيه ، فإن لم يقدروا فالدار لا تعتبر دار إسلام فيما يظهر ، وللأحكام فيها حكم آخر ، وهاهنا يجيء سؤال السائل . وقبل الجواب عنه لا بد من ذكر مسألة يشتبه الصواب فيها على كثير من المسلمين ، وهي : إذا غلب العدو على بعض بلاد المسلمين ، وامتنعت عليهم الهجرة ؛ فهل الصواب أن يتركوا له جميع الأحكام ، ولا يتولوا له عملا أم لا ؟ يظن بعض الناس أن العمل للكافر لا يحل بحال ، والظاهر لنا أن المسلم الذي يعتقد أنه لا ينبغي أن يحكم المسلم إلا المسلم ، وأن جميع الأحكام يجب أن تكون موافقة لشريعته ، وقائمة على أصولها العادلة ، ينبغي له أن يسعى في كل مكان بإقامة ما يستطيع إقامته من هذه الأحكام ، وأن يحول دون تحكم غير المسلمين بالمسلمين بقدر الإمكان ، وبهذا القصد يجوز له ، أو يجب عليه أن يقبل العمل في دار الحرب ، إلا إذا [ ص: 337 ] علم أن عمله يضر المسلمين ولا ينفعهم ، بل يكون نفعه محصورا في غيرهم ، ومعينا للمتغلب على الإجهاز عليهم . وإذا هو تولى لهم العمل وكلف الحكم بقوانينهم فماذا يفعل ، وهو مأمور بأن يحكم بما أنزل الله ؟ أقول : إن الأحكام المنزلة من الله تعالى منها ما يتعلق بالدين نفسه ; كأحكام العبادات ، وما في معناها كالنكاح والطلاق ، وهي لا تحل مخالفتها بحال ، ومنها ما يتعلق بأمر الدنيا ; كالعقوبات والحدود والمعاملات المدنية ، والمنزل من الله تعالى في هذه قليل ، وأكثرها موكول إلى الاجتهاد ، وأهم المنزل وآكده الحدود في العقوبات - وسائر العقوبات تعزير مفوض إلى اجتهاد الحاكم - والربا في الأحكام المدنية ، وقد ورد في السنة النهي عن إقامة الحدود في أرض العدو ، وأجاز بعض الأئمة الربا فيها ، بل مذهب أبي حنيفة أن جميع العقود الفاسدة جائزة في دار الحرب ، واستدل له بمناحبة ( مراهنة ) أبي بكر رضي الله عنه لأبي بن خلف على أن الروم يغلبون الفرس في بضع سنين ، وإجازة النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ، وصرحوا بعدم إقامة الحدود فيها ، روي ذلك عن عمر وأبي الدرداء وحذيفة وغيرهم ، وبه قال أبو حنيفة . قال في أعلام الموقعين : " وقد نص أحمد وإسحاق بن راهويه والأوزاعي وغيرهم من علماء الإسلام ، على أن الحدود لا تقام في أرض العدو ، وذكرها أبو القاسم الخرقي في مختصره ، فقال : لا يقام الحد على مسلم في أرض العدو . وقد أتي بسر بن أرطأة برجل من الغزاة قد سرق مجنة ، فقال : لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لا تقطع الأيدي في الغزو لقطعتك " رواه أبو داود ، وقال أبو محمد المقدسي : وهو إجماع الصحابة . روى سعيد بن منصور في سننه بإسناده عن الأحوص بن حكيم عن أبيه أن عمر كتب إلى الناس ألا يجلدوا أمير جيش ولا سرية ، ولا رجلا من المسلمين حدا ، وهو غاز ، حتى يقطع الدرب قافلا ; لئلا تلحقه حمية الشيطان ، فيلحق بالكفار ، وعن أبي الدرداء مثل ذلك ، ثم ذكر ترك سعد إقامة حد السكر على أبي محجن في وقعة القادسية ، وذكر أنه قد يحتج به من يقول لا حد على مسلم في دار الحرب ، كما يقول أبو حنيفة ، ولكن علله تعليلا آخر ، ليس هذا محل ذكره ، وانظر تعليل عمر تجده يصح في بلاد الحرب .

فعلم مما تقدم أن الأحكام القضائية التي أنزلها الله تعالى قليلة جدا ، وقد علمت ما قيل في إقامتها في دار الحرب ، لا سيما عند الحنفية ، فإذا كانت الحدود لا تقام هناك فقد عادت أحكام العقوبات كلها إلى التعزير الذي يفوض إلى اجتهاد الحاكم ، والأحكام المدنية أولى بذلك ; لأنها اجتهادية أيضا ، والنصوص القطعية فيها عن الشارع قليلة جدا ، وإذا رجعت الأحكام هناك إلى الرأي والاجتهاد في تحري العدل والمصلحة ، وأجزنا للمسلم أن يكون حاكما عند الحربي في بلاده لأجل مصلحة المسلمين ، فالذي يظهر أنه لا بأس من الحكم بقانونه لأجل [ ص: 338 ] منفعة المسلمين ومصلحتهم ، فإن كان ذلك القانون ضارا بالمسلمين ظالما لهم ، فليس له أن يحكم به ، ولا أن يتولى العمل لواضعه إعانة له .

وجملة القول أن دار الحرب ليست محلا لإقامة أحكام الإسلام ؛ ولذلك تجب الهجرة منها إلا لعذر أو مصلحة للمسلمين يؤمن معها من الفتنة في الدين ، وعلى من أقام أن يخدم المسلمين بقدر طاقته ، ويقوي أحكام الإسلام بقدر استطاعته ، ولا وسيلة لتقوية نفوذ الإسلام وحفظ مصلحة المسلمين مثل تقلد أعمال الحكومة ، ولا سيما إذا كانت الحكومة متساهلة قريبة من العدل بين جميع الأمم والملل كالحكومة الإنكليزية ، والمعروف أن قوانين هذه الدولة أقرب إلى الشريعة الإسلامية من غيرها ; لأنها تفوض أكثر الأمور إلى اجتهاد القضاة ، فمن كان أهلا للقضاء في الإسلام وتولى القضاء في الهند بصحة قصد وحسن نية يتيسر له أن يخدم المسلمين خدمة جليلة ، وظاهر أن ترك أمثاله من أهل العلم والغيرة للقضاء وغيره من أعمال الحكومة ; تأثما من العمل بقوانينها ، يضيع على المسلمين معظم مصالحهم في دينهم ودنياهم ، وما نكب المسلمون في الهند ونحوها وتأخروا عن الوثنيين إلا بسبب الحرمان من أعمال الحكومة ، ولنا العبرة في ذلك بما يجري عليه الأوربيون في بلاد المسلمين ; إذ يتوسلون بكل وسيلة إلى تقلد الأحكام ، ومتى تقلدوها حافظوا على مصالح أبناء ملتهم وجنسهم ، حتى كان من أمرهم في بعض البلاد أن صاروا أصحاب السيادة الحقيقية فيها ، وصار حكامها الأولون آلات في أيديهم .

والظاهر مع هذا كله أن قبول المسلم للعمل في الحكومة الإنكليزية في الهند ( ومثلها ما هو في معناه ) وحكمه بقانونها هو رخصة تدخل في قاعدة ارتكاب أخف الضررين ، إن لم يكن عزيمة يقصد بها تأييد الإسلام وحفظ مصلحة المسلمين . ذلك أن تعده من باب الضرورة التي نفذ بها حكم الإمام الذي فقد أكثر شروط الإمامة ، والقاضي الذي فقد أهم شروط القضاء ونحو ذلك ، فجميع حكام المسلمين في أرض الإسلام اليوم حكام ضرورة ، وعلم مما تقدم أن من تقلد العمل للحربي لأجل أن يعيش براتبه فهو ليس من أهل هذه الرخصة ، فضلا عن أن يكون من أصحاب العزيمة ، والله أعلم .

( تنبيه ) : دار الحرب بلاد غير المسلمين ، وإن لم يحاربوا . وكانت القاعدة أن كل من لم يعاهدنا على السلم يعد محاربا .

التالي السابق


الخدمات العلمية