صفحة جزء
( ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم ) أي لو أنهم آمنوا بخاتم النبيين والمرسلين ، واتقوا باتباعه تلك المفاسد التي جروا عليها ، [ ص: 381 ] لكفرنا عنهم تلك السيئات ; لأن هذا الإيمان يجب ما قبله ، والتقوى التي تتبعه تزكي النفس وتطهرها من تأثير تلك السيئات فيمحى أثرها ، ويكون ذلك كفارة لها ، فيستحقون جنات النعيم ، التي لا بؤس فيها .

( ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم ) إقامة التوراة والإنجيل : العمل بهما على أقوم الوجوه وأحسنها ؛ سواء فيه عمل النفس - وهو الإيمان والإذعان - وعمل القوى والجوارح ; أي لو أقاموا ما في التوراة والإنجيل المنزلين من قبل بنور التوحيد والفضائل ، المبشرين بالنبي الذي يأتي من أبناء أخيهم إسماعيل ; كما قال موسى : والبارقليط روح الحق الذي يعلمهم كل شيء ; كما قال عيسى ( عليهم السلام ) . وأقاموا ، بعد ذلك ، ما أنزل إليهم من ربهم على لسان هذا النبي الذي بشرت به كتبهم ، وهو الفرقان الذي أكمل الله به الدين ، لو أقاموا جميع ذلك ، ولم يفرقوا بين رسل الله وكتبه ، لوسع الله عليهم بالتبع لذلك ما يهمهم من موارد الرزق ; فأكلوا من الثمرات والبركات التي تنتج من أمطار السماء ونبات الأرض ، وتمتعوا بما وعد الله به هذا النبي وأمته من سعة الملك .

وقيل : إن المراد بما أنزل إليهم من ربهم سائر ما أوحاه الله تعالى إلى أنبيائهم من أمر الدين وآدابه والبشارة بالنبي الأخير صلى الله عليه وسلم ; كزبور داود ، وحكم سليمان ، وكتب دانيال وأشعيا وغيرهما عليهم السلام ، وفي مجلدات المنار بيان لكثير من هذه البشارات ، وإقامة هذه الكتب من أسباب الصلاح والإصلاح ، فلو أقامها قبل البعثة المحمدية أهل الكتاب لما غلب عليهم ما عزاه المؤرخون إليهم من الطغيان والفساد ، ولما عاندوا النبي - المبشرة به - ذلك العناد ; ذلك بأنهم لـم يقيموها ، ولا تدبروها ؛ وإنما كان الدين عندهم أماني يتمنونها ، وبدعا وتقاليد يتوارثونها ; فهم بين غلو وتقصير ، وإفراط وتفريط ، والمراد أن دهماءهم وسوادهم الأعظم كان كذلك كما يعلم من تواريخهم وتواريخ غيرهم ، ومن دقة القرآن وعدله تمحيص الحقيقة في ذلك بقوله : ( منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون ) أي منهم جماعة معتدلة في أمر الدين . لا تغلو بالإفراط ، ولا تهمل بالتقصير . قيل : هم العدول في دينهم . وقيل : هم الذين أسلموا منهم ، والمعتدلون لا تخلو منهم أمة ، ولكنهم يكثرون في طور صلاح الأمة وارتقائها ، ويقلون في طور فسادها وانحطاطها - وهل تهلك الأمم إلا بكثرة الذين يعملون السوء من الأشرار ، وقلة الذين يعملون الصالحات من الأخيار - وهؤلاء المعتدلون في الأمم هم الذين يسبقون إلى كل صلاح وإصلاح يقوم به المجددون من الأنبياء في عصورهم ، ومن الحكماء في عصورهم ، ولما جاء الإصلاح الإسلامي على لسان خاتم النبيين والمرسلين صلى الله عليه وسلم قبله المقتصدون من أهل الكتاب ومن غيرهم ، فكانوا مع إخوانهم العرب من المجددين [ ص: 382 ] للتوحيد والفضائل والآداب ، والمحيين للعلوم والفنون والعمران ؛ فهل يعتبر المسلمون بذلك الآن ويعودون إلى إقامة القرآن ، وأخذ الحكمة من حيث يجدونها ، وعدد الإصلاح والسيادة من حيث يرونها ، أم يفتئون يسلكون سنن من قبلهم من طور الفساد والإفساد ، شبرا بشبر ، وذراعا بذراع ، ومنه الغرور بدينهم مع عدم إقامة كتابه ، والتبجح بفضائل نبيهم على تركهم لسننه وآدابه ؟ !

روى ابن أبي حاتم عن جبير بن نفير ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يوشك أن يرفع العلم " قلت : كيف ، وقد قرأنا القرآن ، وعلمناه أبناءنا ؟ فقال : " ثكلتك أمك يا ابن نفير ، إن كنت لأراك من أفقه أهل المدينة ، أوليست التوراة والإنجيل بأيدي اليهود والنصارى ؟ فما أغنى عنهم حين تركوا أمر الله ؟ " ثم قرأ : ( ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل ) الآية . وأخرج أحمد وابن ماجه من طريق ابن أبي الجعد عن زياد بن لبيد قال : ذكر النبي صلى الله عليه وسلم شيئا فقال : " وذلك عند ذهاب العلم " ، قلنا : يا رسول الله ، وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن ، ونقرئه أبناءنا ، ويقرئه أبناؤنا أبناءهم إلى يوم القيامة ؟ قال : ثكلتك أمك يا ابن أم لبيد ! إن كنت لأراك من أفقه رجل بالمدينة ، أوليس هذه اليهود والنصارى يقرءون التوراة والإنجيل ولا ينتفعون مما فيهما بشيء " انتهى من الدر المنثور . والشاهد فيه أن العبرة بالعمل بما في الكتب الإلهية ، والاهتداء بهدايتها ، وقد كان أهل الكتاب في ذلك العصر أبعد ما كانوا عن هداية دينهم ، مع شدة عصبيتهم الجنسية له ، كما هو شأن المسلمين اليوم ، على أن عصبيتهم الجنسية له قد ضعفت أيضا ، واستبدل كثير منهم بها جنسية اللغة أو الوطن .

ولا يمنعنا من الاعتبار بهذا الحديث ما علل به من الضعف وانقطاع السند ، والقلب والاختلاف ; لأننا لا نريد أن نثبت به حقيقة ولا حكما شرعيا ، لا دليل عليهما سواه ، وهو لا يدل على سلامة التوراة والإنجيل من التحريف بالزيادة والنقصان ; لأنهما على ثبوت ذلك ، يشتملان على التوحيد والهداية إلى البر والتقوى ، ولكن أهلهما لا يقيمون ذلك ، فالحجة عليهما قائمة ، على كل حال ، وقد علمت أن هذا الحديث تثبت به العبرة ، ولكن لا تقوم به حجة ، وقد أشار الحافظ في ترجمة زياد بن لبيد من الإصابة إلى مخرجيه ، وعلله عندهم ، ومنه يعلم قصور ما اكتفى به السيوطي في الدر المنثور .

( تنبيه ) : إن الشهادة لبعض أهل الكتاب بالقصد والاعتدال في هذه الآية له نظائر في آيات أخرى كقوله تعالى : ( ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ) ( 7 : 159 ) وقوله : [ ص: 383 ] ( ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ) ( 3 : 75 ) الآية ، وغير ذلك . ولولا أن هذا القرآن وحي من الله لما وجدت فيه مثل هذه الشهادة ; لأن الإنسان مهما كان عادلا فاضلا ، لا يرى الفضيلة المستترة في خصومه الذين يناوءونه ويحاربونه ; فيشهد لهم بها ، بل أكثر الناس يعمى عن محاسن عدوه الظاهرة المستفيضة ، وإن رأى شيئا منها يظن أنه نفاق وخداع ، قال شاعرنا الحكيم :

وعين الرضا عن كل عيب كليلة كما أن عين السخط تبدي المساويا

ومن شواهد العبرة على هذه الحقيقة كلمة قالتها امرأة كبيرة العقل والعلم والسن ، من فضليات النساء في سويسرة ، لشيخنا الأستاذ الإمام ، قالت له : " إنني لم أكن قبل معرفتك أظن أن القداسة توجد في غير المسيحيين " ، فإذا كانت هذه المرأة الواسعة العلم بأخلاق البشر ، التي لها عدة مؤلفات في علوم التربية ، تظن مثل هذا الظن في هذا العصر الذي عرف البشر فيه من أحوال البعداء عنهم وتاريخهم ما لم يعرف مثله سلفهم في عصر ما ، فهل يظن أن رجلا أميا في الحجاز يهتدي بغير وحي من الله إلى تلك الحقيقة في أولئك القوم منذ ثلاثة عشر قرنا ؟

التالي السابق


الخدمات العلمية